جولة في كواليس عالم الأدب… روائيون وروائيات عرب يحكون عن عائدات كتبهم
قبل أكثر من قرن ونصف القرن من الزمن، تحدث كارل ماركس عن ضرورة أن يجني الكاتب مالاً من كتابته يتيح له العيش والاستمرار، لكنّه حذّر في الوقت عينه من أن يعيش الكاتب ويكتب بهدف جني المال.
من المفهوم طبعاً أن هذا الحديث قصد انتقاد الأقلام المأجورة التي تطبطِب لقادة وتعادي آخرين وتُستخدَم سياسياً، وهي كانت وستظل موجودة، كما أنها تكثر كثيراً في بلداننا المستعِرة سياسياً. لكن ألم يكن في الإمكان الإشارة مباشرة إلى القصد دون بناء حائط محدد الارتفاع بين الكتابة ومردودها المادي، وكأنهما لا يمكن أن يلتقيا دون أن يربح أحدهما على الآخر؟
حدث أيضاً أن أفضى الكاتب الفرنسي جول رونار بدلوه في هذا السياق فقال إن الكتابة هي المهنة الوحيدة التي لا يتم الاستهزاء بالمرء فيها أو اعتباره سخيفاً إنْ لم يجنِ مالاً جراء عمله. لماذا؟ قد يتساءل القارئ. ما الذي يبرر هذا الاستثناء للكاتب تحديداً، وما الذي يبرر تكريس مقبولية ألا يتقاضى الكاتب أجراً (كافياً) لقاء أعماله، بخلاف العاملين في باقي المهن؟ ما الرابط السوي بين الأمرين، خارج مسألة تشجيع الكاتب على الكتابة، وإنْ كلّفه ذلك غالياً؟
الأمثلة على مَن كلّفتهم كتاباتهم غالياً كثيرة. من هؤلاء الشاعر والروائي الأمريكي جاك كيرواك الذي استفاض، مضطراً، في مديح الفقر. رفضت دور النشر أعماله وفَقَدَ أي أمل في العيش من قلمه، فعاهد نفسه على الاستمرار في كتابة الحقيقة اللاذعة حتى إذا اعتُبر متطرفاً وحتى إذا لم يتمكن من جني دولار واحد من كتاباته. وهكذا، قضى سنوات طويلة مثقلاً بالفقر ومضطراً إلى القيام بأعمال قاسية، في البحر أو على سكك الحديد، ليجني ما يأكل به. كانت هذه طريقته لمواجهة الجهات المقررة لما يُنشَر وما لا يُنشَر، وأثّرت مسيرته هذه في الكثير من الأدباء الذين آثروا خطاه.
العلاقة بين الكتابة والمردود المادي… إرباكٌ أم ارتباك؟
المشترك بين هذه الأمثلة والمقولات الغربية المستقاة من الزمن اللاإلكتروني هو ارتباكُ العلاقة بين الكتابة والمال، لا سيما في ظل سطوة رقابتين: الأولى أخلاقية كما سبق، والثانية سياسية ثقافية تحارب الكاتب إما مباشرةً وإما عبر الناشر الذي يعزف شبه مجبر عن نشر ما لا يروق للسلطات حفاظاً على استمراريته.
في الزمن الإلكتروني اختلفت الأمور، فقد اضمحل النظام الرادع عن الربط بين الكتابة والربح. اليوم، نجد الكاتب الغربي متصالحاً مع منطق الربح الذي يجنيه من كتاباته، سواء أكانت مقالات أم روايات أم بيوغرافيا أم طبخ أم سياسة أم سيناريو أم حوار أم ترجمات.
كل فئات المجتمع تستحق الحياة، هكذا ببساطة. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!
اليوم، “المحتوى” هو المَلِك، ويمكن للكاتب أن يكون منتِجاً على الصعيد المادي، عبر كتابته. وإنْ لم تأتِ المداخيل من المبيعات المباشرة للكتاب بنسخه الورقية والإلكترونية والسمعية، فقد تأتي من الترجمات، أو من استثمار العمل في أي من الفنون السمعية والبصرية، أو من نشر فصل من العمل في صحف أو مجلات، أو من خلق عالم إلكتروني موازٍ للكتاب يدرّ مدخولاً من الدعايات أو الاشتراكات، أو حتى من بعض المواقع الأخرى من مثل “باترون” التي تتيح للكاتب نشر أجزاء من كتاباته تجعل الآخرين يتابعونه ويدعمونه عبر دفع اشتراك شهري مقابل الاطلاع على ما ينشره على الموقع. للعلم فقط، ثمة كتاب في الغرب يجنون آلاف الدولارات شهرياً على موقع باترون.
العوامل التي تؤثر في مردود الكتابة
عند الحديث عن المردود المادي للكتابة، لا سيما الإبداعية منها، لا بد من التوقف عند العوامل التي تؤثر عادةً في هذا المردود، ونسرد بعضها هنا دون اعتماد ترتيب محدد للأهمية.
أولاً، النوع الأدبي يُعتبر عاملاً أساسياً في تحديد إقبال القراء بغض النظر عن مكانهم الجغرافي. تأتي الرواية في طليعة هذه الأنواع عالمياً، وتُسجل مبيعاتها في العالم العربي أعلى المستويات مقارنةً حتى بالكتابات الأخرى، من تاريخ وسياسة وإسلاميات وغيرها.
ثانياً، تفرغ الكاتب للكتابة عاملٌ قد يؤثر في مردود الكتابة وفي وفرتها. كما أن عدم تفرغه قد يزيد من الضغوط على كاهله وقد يؤثر في جودة الكتابة أيضاً ما قد ينعكس سلباً على المبيعات، وإنْ لم يسعنا تطبيق هذه المقاربة دائماً لأن ثمة كتابات أقل جودة تحقق مبيعات أعلى من غيرها الأكثر جمالاً منها، بحكم عوامل أخرى من مثل التسويق أو العلاقات.
ثالثاً، اختيار دار النشر سيؤثر حكماً في مبيعات الكتاب، وذلك بسبب اختلاف قدرات الدور التسويقية والتوزيعية ووجودها في كافة منافذ البيع، لا سيما في العالم العربي. للتسويق دورٌ أساسي لا يغفل عنه أحد، لكن قلة فقط من الناشرين العرب يولون التسويق اهتماماً كبيراً، كما أن الميزانية المخصصة له ضعيفة نسبياً حتى لدى أهم الدور العربية، ما يزيد الحمل على الكاتب غير المتفرغ أصلاً ويصعّب المهمة أكثر. أما لناحية منافذ البيع، فمن الضروري اختيار ناشر قادر على إيصال الكتاب إلى جميع المعارض العربية (التي لم يوقفها شيء سوى الجائحة ما يؤكد نجاح الكثير منها لناحية جدواها المادية، وإنْ لم تكن تغني بالضرورة)، ذلك أن ما يراوح بين 30% و50% من مبيعات الكتب تأتي من المعارض.
رابعاً، لشبكة الكاتب الاجتماعية تأثيرٌ شديدٌ في المبيعات، وكلما تمكّن الكاتب من توسيع هذه الشبكة كلما علت مبيعات كتبه. وينطبق هذا تماماً في العالم العربي حيث العلاقات الاجتماعية قادرة على الدفع بالكاتب إلى الواجهة، حتى إنْ لم تكن أعماله متميزةً جداً. ولشبكة علاقاته الإلكترونية وزن أيضاً لناحية عدد متابعيه ومدى تفاعلهم مع المضمون الذي ينشره. وهذه كلها اعتبارات تؤثر في اهتمام المكتبات والدفع بالكتاب إلى القراء. كما يمكنها التأثير بشكل سلبي أيضاً، فعلى سبيل المثال تُقدِم مكتبة عربية كبرى على إرجاع نسخ أي كتاب يثير لبساً على مواقع التواصل الاجتماعي. هكذا وبكل بساطة، تفادياً لـ”وجع الراس” ومن دون أي نقاش مع الدار أو الكاتب أو غيرهما.
خامساً، وبحكم أن الكِتاب سلعة فهو إذاً يتأثر بحال السوق وتوجهاتها، بما في ذلك الأزمات. من غير المنطقي توقع مبيعات عالية في لبنان في هذه الآونة مثلاً، لكن الانتعاش الاقتصادي في الخليج قد يُترجم ارتفاعاً في مبيعات الكتب.
سادساً، شروط العقد الموقّع مع جهة النشر تحدد بشكل مباشر المردود الذي يحققه الكاتب، وهي تختلف بين كاتب وآخر، وبين دار وأخرى في عالمنا العربي. مع ضرورة أن يتنبه الكاتب إلى مَن يحاسبه عن مبيعات كتبه على أساس سعر المبيع، ومَن يحاسبه عى أساس صافي المبيعات أي بعد اقتطاع حوالي 50% كحسومات تُمنح للمكتبات، ومَن لا يحاسبه أساساً.
يحكي الكاتب السوري خالد خليفة أن أهله كانوا يعتقدون أنه سيعيش فقيراً جداً حين بدأ الكتابة، لكن تجربته كانت مختلفة عن تجارب معظم الروائيين العرب إذ أمّنت له الكتابة دخلاً جيداً
سابعاً، تدفع الترجمات بالكتاب إلى أسواق جديدة وكبيرة، وتنعكس قفزةً في المبيعات والعائدات. يساهم العمل مع وكيل أدبي جيد في تأمين عقود نشر أجنبية ويمكنه أن يعمل مع الكاتب أو مع الدار.
ثامناً، تشكل الجوائز الأدبية حافزاً معنوياً ومادياً جيداً، إذا تمكن الكاتب من الحصول عليها. فبالإضافة إلى المبلغ الذي يُدفع للكاتب مباشرةً، تؤدّي الجوائز إلى الدفع بمبيعات الكتاب إلى مستويات لم تكن متاحة سابقاً.
تاسعاً، تأتي القرصنة في أول قائمة العوامل التي تؤثر على مردود الكتاب في العالم العربي تحديداً لكنها في آخر القائمة في الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية. يخسر الكاتب العربي الذي تُزَوَّر كتبه نصف عائداته عل الأقل، بين التزوير الورقي والإلكتروني، وكلما زادت شعبية الكاتب كلما ارتفعت خسارته، علماً أن الكثير من الكتاب لا يولون الأمر اهتماماً، بل يساهم البعض في مشاركة نسخ البي دي إف الخاصة بكتبهم.
روائيون وروائياتٌ عرب يحكون عن عائدات كتبهم
يحكي الكاتب السوري خالد خليفة أن أهله كانوا يعتقدون أنه سيعيش فقيراً جداً حين بدأ الكتابة، لكن الأخيرة أمّنت له دخلاً جيداً جداً، لا سيما الكتابة للدراما التلفزيونية. في البدء، كانت كتابة سيناريوهات للمسلسلات السورية مصدر عيشه إلى أن توقفت لفترة مع حلول عام 2011. تزامناً، بدأت عائدات ترجمات كتبه تساعده مادياً، إلى أن أصبح قادراً على الاعتماد عليها في حياته اليومية إنْ أراد، علماً أنها “ليست مجزيةً جداً، لكنها كافية”، على ما يقول. وكيلته الأدبية هي التي ساهمت في ضمان استمرارية هذه العائدات.
سيحتفل خليفة هذا العام بصدور الترجمة الإنكليزية لروايته “لم يصلِّ عليهم أحد” بطبعتين، الأولى عن دار “فابر آند فابر” البريطانية الكبيرة، والثانية عن دار “فرار شتراوس وجيرو” الأمريكية الضخمة. وقد ذُكرت الطبعة الإنكليزية من الرواية ضمن لائحة الغارديان التي تضيء على أفضل الإصدارات المرتقبة لعام 2023.
أما الروائية العراقية إنعام كجه جي، فتعيش من اشتغالها بالكتابة والصحافة. تداخلٌ آخر بين الأدب وأشكال الكتابة الأخرى، نجده متكرراً بكثافة بين أبناء العالم العربي، وإنْ سكنوا في الخارج.
كجه جي تقيم في باريس حيث متطلبات المعيشة عالية ومستمرة في الارتفاع، لذا لا يمكنها الاتكال على رواياتها فقط. هي لا تتعامل مع وكيل أدبي، وتتقاضى عائدات نقدية من الروايات أو تطلب نسخاً منها بالقدر الذي ترغب فيه، “مع تنظيم حفلات توقيع لي في بيروت أو القاهرة”.
تقول الروائية إنها لم تحصل على مقابل من طبعات أردنية وجزائرية ومصرية وفلسطينية صدرت. و”في الترجمات إلى الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية والصينية، حصلت على مبلغ مقدَّم يراوح ما بين ألف يورو وأربعة آلاف يورو، ثم نسبة من سعر المبيعات. أما الترجمات إلى اللغات الشرقية كالفارسية والكردية فتتم ودياً… كثّر خيرهم”، تقول.
وفي موقف سيصبح مربكاً للكثيرين مع موجة السلام والتعامل التجاري مع إسرائيل التي تجتاح الخليج، تؤكد كجه جي أنها لم تتقاضَ حقوقها عن ترجمة إحدى رواياتها إلى العبرية، “لأنني لا أوقّع عقداً مع ناشر إسرائيلي”.
لا الدفعة المقدَّمة ولا العائدات تغني الروائية العتيدة عن العمل كمراسلة صحافية، لكنها لا تجد مانعاً من الحلم بيوم تصبح فيه قادرةً على التفرغ بشكل كامل للكتابة الأدبية.
يؤكد الكاتب العراقي شاكر نوري، ضاحكاً، أنه لكان في عداد الموتى منذ زمن طويل لو أنه اضطر إلى الاعتماد على عائدات كتبه فقط ليعيش، فتلك العائدات منحته ما اشترى مرةً به لابتوب، ومرة أخرى تذكرة سفر، وهكذا
حين نشر الكاتب المغربي محمد سعيد أحجيوج روايته الأولى بعد مجموعتين قصصيتين، وقّع عقداً تخلى فيه عن عائدات مبيعات كتابه. قد يبرر ذلك اعتقاد الكاتب نفسه أن “مجرد نشرها (رواياته) هو مغامرةٌ للناشر” لأن أسلوبها تجريبي. لكن هذا الأسلوب التجريبي لم يمنع داراً عربية كبيرة من نشر روايته الثانية التي تقاضى عنها مبلغاً لا يتعدى مئتي دولار كعائدات عن المبيع، “بعد احتساب المصاريف البنكية”. يؤكد أحجيوج أنه دفع لإهداء نسخ من كتابه مبلغاً أكبر من هذا. أما روايته الثالثة، فما زال الوقت مبكراً للحكم على مردودها بحكم صدورها قبل فترة قصيرة.
لا يتوقع الكاتب المغربي إذاً عائدات كبيرة من كتبه، كما أنه لا يتوقع أن يحصد دفعةً مقدَّمة عن كتاب قادم، ذلك أنه يعلم أن الناشر العربي لن يتحمس لعرضٍ مقدم لأعماله “لأنها لن تحقق مبيعات عالية”. هو أيضاً يعمل في الصحافة، بشكل مستقل، كما أنه مدوّن. “لنترك الأمر للمستقبل”، يقول، فيما تشي كلماته ببعض تصوره للمستقبل.
رحلة الروائي المصري طارق إمام تتقاطع مع مسار عدد كبير من الكتاب العرب الذين يكتبون الأدب شغفاً فيما يحافظون على أعمال أخرى لهم تدور في فلك الكتابة أيضاً وتدرّ لهم ما يكفيهم كفاف أيامهم.
وهكذا، يعمل الروائي في الصحافة، حيث يشغل منصب نائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون الأسبوعية الصادرة في القاهرة. هو عملٌ يراه مريحاً، “بحكم أقدميتي في المجلة”، ما يمنحه الكثير من الوقت للكتابة. والعائدات الأكبر التي يتلقاها ترد من نشاطات مرتبطة بالكتابة، كإعطاء محاضرة ما أو المشاركة في مهرجان يكافئ الكاتب، أو عبر الحصول على جائزة. “أما كتبي، فلم تدرّ أبداً ما أستطيع أن أتعامل معه كدخل أو أن أعلنه كرقم ذي قيمة”.
حصد إمام مرتين دفعةً مسبقة عن رواية له، لكن المبلغ كان في المرتين هزيلاً: 3000 جنيه مصري فقط لا غير، وهو يكتفي بعائدات ما بعد البيع، “إنْ قرر الناشر منحي إياها بالطبع”.
طنت في أذني جملة طارق الأخيرة، ذلك أن ثمة ناشرين كثراً لا يحاسبون كتّابهم سنوياً، وثمة كتّاب كثر “يستحون” من المتابعة مع ناشري كتبهم بخصوص حقوقهم.
بدوره، يبدو الروائي السوري سومر شحادة متغاضياً تماماً عن عائدات رواياته. “لا أفكر في عائدات الكتب، لا قبل تسليم العمل ولا بعده. الوضع سيئ. هذه حقيقة. لا يمكن للكاتب أن يعيش من كتبه. إلا ربما بعد تجربة طويلة من الكتابة وبمرور الزمن أيضاً”. يرى سومر أن “الكتابة ألطف من العالم الذي نعيش فيه”، لذا يحاول أن يعيش حياته منغمساً فيها، سواء ككتابة إبداعية أم ككتابة صحافية يعتمد عليها لتأمين عيشه. هنا أيضاً، تتقاطع مسيرة الروائي الشاب المهنية مع مسيرة زملائه في الأدب، وفي الصحافة أيضاً.
خلال السنة الأولى بعد النشر، حققت نسرين النقوزي من مبيع نسخ روايتها الأولى عشرين دولاراً، اشترت بها عصير ليمون وقطعة “غاتو”، تقول وهي تضحك.
هي ليست متفرغةً للكتابة رغم انغماسها فيها، شأنها في ذلك شأن كل كاتب عربي أعرفه. مع العلم أن الكاتبة اللبنانية التي عاشت جزءاً كبيراً من حياتها في كندا اختارت أعمالاً قريبة من الإبداع تجني منها قوتها، إذ تعمل أحياناً كمنشطة لدورات في التنمية الإبداعية، أو تعطي ورش كتابة، كما تعمل معلمة لغة عربية للأجانب، وتعلم الأطفال مادة التفكير النقدي.
تلفت النقوزي إلى عدم توفر منح عربية كافية للكتابة يمكن الاعتماد عليها للتفرغ للإبداع، وتقول: “سيرفع ذلك عنّا بعض ما نعانيه في الشرق كي نسرق الوقت ونتفرغ للكتابة”. كما أنها تؤكد إدراكها لصعوبة الحصول على دفعة مقدَّمة في بلادنا “نظراً لأسباب كثيرة لا مجال لنقاشها هنا”.
أما الكاتب والروائي العراقي شاكر نوري، صاحب الخبرة الطويلة في مجال الكتابة والنشر، فغالباً ما تقرأ له منشورات على فيسبوك يشير فيها إلى بعض “دكاكين النشر” التي لا تحترم حقوق الكاتب وأصول المهنة. “في الحقيقة، السؤال عن العائدات المادية للكتابة موجعٌ، لأن غالبية دور النشر لا تعطي الكاتب حقوقه، وهناك في المقابل دورٌ ملتزمة بدفع الحقوق”، يقول. لكنه يؤكد ضاحكاً، أنه لكان في عداد الموتى منذ زمن طويل لو أنه اضطر إلى الاعتماد على عائدات كتبه فقط ليعيش، فتلك العائدات منحته ما اشترى مرةً به لابتوب، ومرة أخرى تذكرة سفر، وهكذا.
هو أيضاً لم يتمكن من التفرغ للكتابة إذاً، واستند إلى الكتابة الصحافية والتدريس كمصدر عيش. “التفرغ للكتابة رفاهية للكاتب، ولو أنك عندما تكتب الرواية لا تستطيع أن تقوم بأي عمل آخر”. يرى أن “الغالبية الساحقة من دور النشر ليست مؤسسات لها أنظمة وقوانين يمكن الاعتماد عليها”، ما يشكل مشكلةً في نظره، ويصعّب متابعة الكاتب لحقوق كتبه وعائدات بيعها. أما في ما يخص الدفعات المقدَّمة، فيعتبر أنها مفيدة جداً، وأي مورد مالي للكاتب سواء دفعة مقدمة أم عائدات ما بعد البيع يمنحه شعوراً نفسياً بالرضا، “لأن هناك مَن يقيّم عملك ولن تذهب جهودك سدى”. إنما في النهاية، يلفت نوري إلى أن “كل ذلك يعتمد على تطوّر وعي المجتمع وتقديره للكاتب أو الفنان”.
لا تتفرّغ الروائية اللبنانية نجوى بركات للكتابة الإبداعية، لكنها توليها اهتماماً كبيراً وتريد توسيع محترفها الخاص بالكتابة الروائية والذي نشرت خلاله 25 رواية لكتّاب عرب. تعمل بركات في الصحافة منذ سنوات إلى جانب الكتابة، وهي مقبلةٌ على مغامرة جديدة في مجال التلفزيون، هي التي درست السينما أساساً.
تعتبر أن الكاتب في العالم العربي يقف دائماً على رمال متحركة، بمعنى أنه لا يملك واقعه ولا يملك القدرة على توقع ما سيأتي. وهذا بالضبط ما يجعلها تستمع إلى دور النشر حين تحكي عن الصعوبات التي تواجهها والتي تؤثر في قدرتها على تحقيق مبيعات عالية تنعكس أيضاً مردوداً مرتفعاً للكاتب يتيح له التفرغ ربما.
وفي حين تعتبر أن الكثير من مشكلات القطاع الثقافي تستلزم تدخلَ دول ولا يمكن للناشر أو للكاتب حلّها وحدهما، كما أن هناك تأثير القرصنة، إلا أن بركات تلفت إلى أن ثمة مشكلات تقع على عاتق الدور من مثل غياب التسويق أو ضعفه، وعدم وضعها خطةً تسويقية للكتاب بالاشتراك مع الكاتب.
لدى الروائية اللبنانية نجوى بركات مقاربة تصفها بالقاسية تجاه أداء بعض دور النشر، “بسبب الدور التخريبي التي تؤديه”. أحد أسباب هذه المقاربة هو إقدام البعض على نشر محتوى دون المستوى، بل حتى بمستوى “معطوب” لأن كاتبه قادر على دفع تكلفة النشر
وتضيف الروائية اللبنانية أن ارتفاع أسعار الكتب يؤثر على مبيعاتها، مع انخفاض إقبال القارئ على الكتاب وتحوّل الأخير إلى كمالية حياتية. ورغم تفهمها لواقع الحال اقتصادياً واجتماعياً، لديها مقاربة تصفها بالقاسية تجاه أداء بعض دور النشر، “بسبب الدور التخريبي التي تؤديه، حتى إنْ كانت لديها مبررات، إذ ثمة أسباب تخفيفية تؤخذ في الاعتبار عند الحكم على مرتكب الجريمة، لكنه في النهاية ارتكب جريمة”. والجريمة المعنيّة من قبل بركات هي إقدام البعض على نشر محتوى دون المستوى، بل حتى بمستوى “معطوب” لأن كاتبه قادر على دفع تكلفة النشر. فبالإضافة إلى تكريس الصيغة التي يصبح الكاتب معها هو مَن يدفع وليس الدار، يؤدي هذا الأمر إلى “تخريب عالم النشر والأدب. كما أنه غش. غش بحق الكاتب الجديد”، الذي يفترض أن محتواه جاهزٌ كونه نُشِر، ويتوهم قدرته على شغل حيّز في عالم الكتابة.
وتتابع: “كما أنه غش للقارئ وتضييع لحكمه على العمل لناحية جودته، أي تخريبٌ لذائقة القارئ. وهو أيضاً إساءةٌ للكاتب الجيد لأن النشر سُخِّفَ وأصبح في إمكان أي كان جمع مبلغ ألفي دولار ونشر كتاب بها!”. وهكذا، فقد الكثير من الكتاب الجدد المحفّز الذي يجعلهم يحسّنون أداءهم، وأخذت الأسئلة التي يطرحونها في الابتعاد عن الأدب لتتمحور أكثر حول البيع أو الشكل أو عملية النشر وليس حول المضمون. مع العلم أن “تقليد طلب دفعة من الكاتب لقاء نشر كتابه موجودٌ بكثرة، لا سيما في مصر على سبيل المثال”، ولا يقتصر فقط على الكتّاب الجدد بل يشمل أيضاً كتاباً معروفين. “بليز بليز ما بقى تنشرو لناس عميدفعولكن مصاري”، تنادي بإصرار، “أو اعملوا مع هؤلاء على تحسين نصوصهم لضمان مستوى مقبول على الأقل”.
المشتركات بين التجارب
ما المشترك بين كل هذه التجارب؟ صعوبة التفرغ للكتابة إنْ لم يكن للكاتب مصدر دخل آخر. ربطٌ آخر، شديدٌ أيضاً، بين الكتابة وضآلة مدخولها. اختيارُ عدد كبير من الكتّاب مهناً تتشابك وتتداخل مع الكتابة، من صحافة وتدريس وكتابة سيناريو. ندرة الكتّاب العرب الذين يتقاضون دفعة مقدَّمة عن أعمالهم، وضآلة الدفعة المقدَّمة إنْ وُجِدَت. قلة الكتّاب العرب الممثَّلين عبر وكيل أدبي. ضعف عائدات المبيعات العربية، والاتكال على الترجمات التي يجني البعض منها، إن وُجِدَت، مداخيل تُعتبر مقبولة نسبياً. عدم إيمان الكثير من الكتّاب العرب بإمكانية تحقيق عائدات من الكتابة، وعدم سعي الكثيرين منهم إلى متابعة الجانب المادي بل حتى التنازل أو التسامح بكامل الحقوق. اعتراضاتٌ على أداء بعض الدور العربية. إحساسٌ عارمٌ بالإحباط، وبعض الرضوخ لواقع الحال.
وهنا يأتي السؤال الأهم وهو: كيف يمكن للأدب أن يتحرر من سطوة المال إذا لم يكن ذلك عبر تأمين ما يكفي من المال ليعتاش منه الأدباء بكرامة؟ كيف يؤثر إرهاق الكاتب المعيشي وافتقاره إلى الوقت، على مستوى كتاباته؟
وعن هذا السؤال يتأتى آخرٌ يقول: إذا لم يكن الكاتب نفسه معنياً بعائدات كتبه، وإذا لم يدرك حقوقه وواجباته تجاه كتاباته، فكيف له أن يرتقي بأعماله؟
وكيف للكتّاب إذاً الانخراط في زمن الكتابة الإلكتروني، عبر متابعة التقنيات الجديدة والمنصات العالمية والدفع بالمستوى العربي إليها، إذا كان واقع الحال يمتص كل ثانية من وقتهم؟
نهايةً، للناظر إلى عالم المحتوى الأدبي العربي الحديث أن يتساءل متى ستُحَل مشكلات الكتابة والإبداع في الجزء المخصص لنا من الكرة الأرضية، ومتى سيتخلى الكتاب العرب عن بقايا نظام الزمن اللاإلكتروني، المتعلق برابط خجول بالضرورة بين الكتابة والمردود المادي، أو حتى بضرورة أن يتكلف الكتّاب في سبيل نشر الثقافة.