سياسة

هل تدفع الفوضى والإفلات من العقاب ليبيا نحو جرائم ضد الإنسانية؟

 بقلم: سلمى مسعود عداس 

صحفية وكاتبة ليبية، مهتمة بالقضايا الإنسانية والحقوقية، خاصة حقوق النساء وقضايا الهجرة والهوية والعدالة الاجتماعية.

منذ سنوات، تحوّلت ليبيا إلى ساحة مفتوحة للعنف السياسي والاجتماعي، حيث يُستهدف الإنسان في حياته وكرامته، وتُستباح النساء والرجال على السواء. فما بين اغتيال ناشطات وسياسيات بارزات، وتعذيب واغتصاب داخل السجون، وخطف وإخفاء قسري، واتجار بالبشر، يتشكل مشهد قاتم يضع البلاد على حافة مساءلة دولية لا مفر منها.

اغتيال سلوى بوقعيقيص عام 2014، ثم اختفاء النائبة سهام سرقيوة عام 2019، وأخيرًا تصفية المحامية والناشطة حنان البرعصي في وضح النهار عام 2020، لم تكن جرائم معزولة. بل هي رسائل دموية إلى كل امرأة تجرؤ على رفع صوتها. فاستهداف الناشطات والسياسيات والإعلاميات صار سلاحًا لإسكات الأصوات الحرة، حيث وثقت منظمات حقوقية دولية شهادات لنساء تعرضن للخطف والإخفاء، قبل أن تُسرب لهن مقاطع مصورة وصور مُهينة تُظهر أجسادهن منهكة تحت وطأة الانتهاكات الجنسية والجسدية، ليُستخدمن أداة للترهيب وتشويه السمعة.

هذه الانتهاكات لم تتوقف عند النساء وحدهن. رجالٌ أيضًا، داخل السجون ومراكز الاحتجاز، تعرضوا لاغتصاب ممنهج وتعذيب وحشي. أحد المعتقلين قال في شهادة موثقة: “تمنيت الموت مئة مرة. ما فعلوه بنا لا يمكن وصفه.” شهادات كهذه تعكس أن الاغتصاب صار أداة حرب قذرة، لا تميّز بين رجل أو امرأة، بل تستهدف الكرامة الإنسانية ذاتها.

اليوم، ومع توالي تسريبات مقاطع وصور من داخل السجون الليبية، لم تعد الانتهاكات مجرد روايات ضحايا أو شهادات حقوقية، بل أدلة حيّة تُبث أمام الرأي العام. مشاهد التعذيب الجسدي والاعتداءات الجنسية لمعتقلين باتت تُعرض على الملأ، في انتهاك مزدوج: انتهاك جسد الإنسان وكرامته، وانتهاك حقه في الخصوصية والستر. أما في مراكز احتجاز المهاجرين، والتي يُفترض أن تكون تحت إشراف جهات حكومية رسمية، فالوضع لا يقل بشاعة، حيث يتعرض المحتجزون للتعذيب والإذلال والابتزاز تحت ذريعة “تطبيق القانون”، بينما الحقيقة أن هذه الممارسات تنفذها جماعات مسلحة تتبع شكليًا للحكومات المتعاقبة.

وفي 27 أغسطس 2025، اهتز الرأي العام المحلي والدولي بعد انتشار مقطع مصوَّر يوثّق جريمة مروّعة ارتكبها عناصر مسلحون تابعون للكتيبة (55) في ورشفانة، حيث ظهروا وهم ينتهكون جسديًا أحد المعتقلين ويصورون الجريمة بأنفسهم قبل نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي اليوم التالي فقط، سارعت الجهة التي يتبع لها هؤلاء العناصر إلى الإعلان عن القبض عليهم وفتح تحقيق معهم. لكن خلال التحقيق، أنكر المتورطون أن الضحية كان محتجزًا لديهم، وادعوا أن ما حدث وقع في إحدى الاستراحات وأنه شخص يعرفونه. غير أن المشاهد المصوّرة نفسها تثبت بوضوح أن ما جرى كان فعلًا إجراميًا مكتمل الأركان، يمثل إذلالًا وانتهاكًا لا يحتمل أي تبرير. والسؤال الجوهري يظل مطروحًا: هل كان تحرّك الكتيبة نابعا من مسؤولية قانونية حقيقية أم مجرد محاولة لامتصاص الغضب الشعبي بعد الصدمة الواسعة التي أثارها الفيديو؟ الجواب المؤلم أن ما حدث لم يكن إجراءً قضائيًا نزيهًا، بل التفافًا اعتدنا عليه: يُوقَف الجناة لفترة قصيرة، ثم يُتركون أحرارًا بمجرد أن يهدأ الرأي العام.

ردود الفعل الدولية لم تتأخر في كل مرة. فبعد اغتيال سلوى بوقعيقيص، أدانت بعثة الأمم المتحدة الجريمة مؤكدة أن استهداف النساء المدافعات عن حقوق الإنسان يهدد المسار الديمقراطي بأكمله  وعقب مقتل حنان البرعصي، وصفت بعثة الأمم المتحدة الحادثة بأنها انعكاس خطير للإفلات من العقاب، فيما طالب الاتحاد الأوروبي بتحقيق شفاف وحذّر من أن استهداف النساء يقوض فرص الاستقرار والمصالحة كما أدان البرلمان الأوروبي اختفاء سهام سرقيوة القسري وطالب بالكشف عن مصيرها، فيما أدرجت تقارير اللجنة الدولية لحقوق الإنسان اسمها ضمن الحالات البارزة التي تعكس تواطؤ السلطات بالصمت.

اليوم، ومع هذه الأدلة المتزايدة، عادت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية لتطالب بتحقيق مستقل، محذرة من أن استمرار هذا النهج سيعرض ليبيا لعقوبات دولية، وربما للإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتبار هذه الجرائم جرائم ضد الإنسانية.

ورغم أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت بالفعل مذكرات اعتقال بحق شخصيات متورطة في ارتكاب جرائم خطيرة داخل ليبيا، فإن أيًّا من هؤلاء لم يُسلَّم حتى الآن. الأسباب متعددة، تبدأ من الانقسام السياسي الحاد بين حكومات متصارعة، مرورًا بـ ضعف المؤسسات القضائية والأمنية وعجزها عن تنفيذ القرارات الدولية، وصولًا إلى رفض بعض الأطراف المحلية لفكرة العدالة الدولية واعتبارها تدخلاً في السيادة، فضلًا عن تواطؤ دولي ضمني يجعل بعض المطلوبين أوراقًا سياسية أكثر من كونهم مجرمين ينبغي محاسبتهم.

تعدد الحكومات وانقسام البلاد بين شرق وغرب وجنوب، وانحلال المؤسسات القضائية والأمنية، جعل الأرض مفتوحة أمام الميليشيات لتفرض قوانينها الخاصة. الدولة غائبة، المواطن عاريًا بلا حماية، والكرامة الإنسانية مستباحة. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد السؤال عن حجم الجريمة، بل عن المدى الزمني الذي سيستمر فيه الإفلات من العقاب.

خاتمة

إن ما يجري في ليبيا اليوم لم يعد مجرد سلسلة من الانتهاكات الفردية، ولا أحداثًا يمكن وصفها بأنها “قد ترقى” إلى جرائم ضد الإنسانية. الحقيقة أبشع وأوضح: هذه جرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان، تتوافر فيها كل عناصر الجريمة المنصوص عليها في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، من القتل، الاغتصاب، التعذيب، الاختفاء القسري، والاضطهاد، وكلها تُرتكب بشكل واسع وممنهج، وتستهدف المدنيين بشكل مباشر.

هذه ليست خروقات عابرة، بل سياسة أمر واقع تفرضها جماعات مسلحة تحت أنظار سلطات عاجزة أو متواطئة. هي جريمة بحق كل رجل اغتُصب في زنزانة مظلمة، وبحق كل امرأة أُنهك جسدها تحت سياط الجلادين، وبحق كل ناشطة وسياسية وإعلامية خُطفت أو صُفّيت، وبحق آلاف المهاجرين الذين يُباعون ويُشترون في أسواق العبودية الحديثة. إنها جريمة بحق المجتمع الليبي بأكمله، وبحق الإنسانية جمعاء.

إن الصمت على هذه الجرائم مشاركة فيها، والإفلات من العقاب اليوم لن يحمي الجناة غدًا. فالتاريخ لا يرحم، والمجتمع الدولي لن يبقى متفرجًا طويلًا، والعدالة ستلاحق كل من تلوثت يداه بالدماء أو شارك في إذلال الإنسان. ليبيا أمام لحظة فاصلة: إما أن تواجه الحقيقة وتكسر دائرة الفوضى، أو تُساق إلى محكمة التاريخ والعدالة الدولية بوصمة بلد تُرتكب فيه أبشع الجرائم دون حساب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews