منح الجنسية لرئيس الفيفا يشعل سجالاً واسعاً في لبنان… وملف جنسية أبناء اللبنانيات يعود إلى الواجهة

ريتا الأبيض – مراسلين
أثار قرار رئيس الجمهورية اللبنانية منح رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) الجنسية اللبنانية موجة واسعة من الجدل السياسي والحقوقي. فقد رأى كثيرون أن الخطوة تكشف ازدواجية واضحة في طريقة تعامل الدولة مع ملف الجنسية. ورغم وضع القرار في إطار بروتوكولي وتكريمي، إلا أنّ انعكاساته السياسية والاجتماعية بدت أكبر من رمزيته. لذلك عاد ملف حقوق النساء اللبنانيات إلى الواجهة، وخصوصاً حقهن في نقل الجنسية إلى أولادهن.
القرار صدر بعد لقاء رسمي في القصر الجمهوري. ومع مرور ساعات قليلة فقط، تحوّل إلى محور نقاش عام حاد. هذا لأن مجموعات حقوقية وسياسية اعتبرت أنّ منح الجنسية لشخصية دولية نافذة يتم بسهولة ومرونة لا يحصل عليهما أبناء اللبنانيات. وأشارت هذه المجموعات إلى أنّ آلاف العائلات تعيش في البلد نفسه لكنها محرومة من قانون يعتبره الكثيرون “أكثر القوانين تمييزاً بحق المرأة”.
خطوة بروتوكولية تُشعل الشارع
وفق المعلومات الرسمية، جاء منح الجنسية “تقديراً لدور رئيس الفيفا في دعم كرة القدم اللبنانية وتعزيز التعاون الرياضي”. لكنّ هذا التبرير لم يخفف من حدّة الانتقادات. فقد ركّز عدد كبير من اللبنانيين على المقارنة بين سرعة تجنيس شخصية أجنبية وبين التعطيل المستمر لأي مبادرة تُنصف المرأة اللبنانية في هذا الملف.
انتشرت مئات التعليقات عبر مواقع التواصل. ورأى كثيرون أنّ “الدولة قادرة حين تريد”. كما قال البعض إنّ معيار هذه القرارات لا يعتمد على العدالة أو المصلحة العامة، بل على “العلاقات السياسية والمنفعة الدولية”. لذلك وجد معارضون أنّ هذه الخطوة، حتى وإن حملت طابعاً رياضياً أو دبلوماسياً، تُظهر هشاشة النظام القانوني الذي يقيّد حقوق اللبنانيات ويحرم أبناءهن من وضع قانوني طبيعي.
قانون يعود إلى قرن مضى… ومعاناة يومية لآلاف العائلات
يعتمد القانون اللبناني للجنسية على مبدأ “النسب من الأب”. ويعني ذلك أن الجنسية تنتقل حكماً عبر الأب اللبناني فقط. وبالتالي تُحرم المرأة اللبنانية من هذا الحق حتى اليوم. وعلى مدى عقود، حاولت جمعيات حقوقية الدفع نحو تعديل القانون. لكنّ كل المحاولات اصطدمت برفض سياسي يستند إلى اعتبارات طائفية وديموغرافية، لا إلى مبادئ الحقوق المدنية.
وتنتج عن هذا الواقع معاناة فعلية لعشرات آلاف الأطفال. فالأبناء الذين لا يحملون الجنسية اللبنانية يعيشون ضمن قيود معقدة تشمل الإقامة، الصحة، التعليم، العمل والاندماج الاجتماعي. وفي المقابل، يُمنح بعض الأجانب الجنسية بقرارات سريعة واستثنائية، ما يجعل المقارنة أكثر إيلاماً بالنسبة للأمهات اللبنانيات.
ردود فعل حقوقية وسياسية: “انحياز واضح ومعايير غير متوازنة”
لاقى القرار انتقادات واسعة من منظمات المجتمع المدني. فقد وصفته جهات عديدة بأنه “رسالة سلبية للنساء اللبنانيات”. كما اعتبرت أنّ الدولة تستخدم الجنسية أحياناً كأداة سياسية أو دبلوماسية، بينما تهمل حقوق مواطناتها. ولفت ناشطون إلى أنّ الملف يُفتح ويُغلق وفق الظروف السياسية، وليس وفق معايير قانونية أو إنسانية.
سياسياً، انقسمت المواقف. فهناك من رأى في القرار فرصة لتعزيز التعاون الرياضي. وهناك من اعتبره “تجاوزاً للمنطق القانوني” و“استفهاناً بمعاناة آلاف اللبنانيات”. وذهب بعض المعارضين أبعد من ذلك، مؤكدين أنّ المرسوم يكرّس فكرة أنّ الجنسية تُستخدم كـ“عملة سياسية”.
بين البعد الرياضي والتساؤلات الوطنية
تشير مصادر مطلعة إلى وجود مساعٍ لتطوير منشآت كروية في لبنان بدعم من الفيفا. وربما تشمل هذه المساعي إطلاق مشاريع بنى تحتية جديدة. ولكن، ورغم هذه الوعود، يرى كثيرون أنّ التعاون الرياضي لا يبرّر إصدار مراسيم استثنائية تمسّ الحقوق الأساسية للمواطنين.
ويعتبر مراقبون أنّ حساسية ملف الجنسية في لبنان تجعل أي خطوة في هذا الاتجاه قابلة للجدل. كما أنّ الظروف الاقتصادية والسياسية الخانقة زادت من هشاشة الواقع الاجتماعي. لذلك ساهم توقيت القرار في تضخيم النقاش وإعادة تسليط الضوء على ملفات كانت مؤجّلة لسنوات.
إعادة فتح ملف “أبناء اللبنانيات” بقوة غير مسبوقة
برز ملف أبناء اللبنانيات من جديد. إذ رأى كثيرون أنّ حرمان آلاف العائلات من حق بديهي يتناقض مع منح الجنسية لشخصية أجنبية خلال وقت قصير. واعتبر آخرون أنّ هذا الواقع يعمّق الشعور بالظلم، ويكشف الفجوة بين النصوص القانونية والواقع الاجتماعي.
وترى جهات حقوقية أنّ اللحظة الحالية قد تمثل فرصة جديدة للضغط نحو تعديل القانون. وقد ساهم الجدل الشعبي الواسع في توسيع النقاش، بحيث بات يشمل شرائح مختلفة من المجتمع، وليس فقط الناشطات أو المنظمات النسوية.
ملف مفتوح… ولا مؤشرات على إصلاح قريب
رغم حجم النقاش، لا توجد حتى الآن مؤشرات واضحة على وجود نية رسمية لإطلاق مسار إصلاحي. وتشير مصادر قانونية إلى أنّ أي تعديل لقانون الجنسية يتطلب توافقاً سياسياً معقداً. وهذا التوافق لا يبدو قريباً بسبب التركيبة السياسية والطائفية الحالية. لذلك يبقى الملف واحداً من أصعب الملفات المرتبطة بالهوية اللبنانية.
ومع غياب الحلول، يستمر اللبنانيون في طرح الأسئلة نفسها: كيف تمنح الدولة جنسيتها لأجنبي خلال دقائق، بينما لا تستطيع المرأة اللبنانية منح جنسيتها لابنها؟ وهل يمكن أن يُعدّ هذا القرار خطوة عادية في بلد يعيش آلاف أبنائه أزمة هوية قانونية كل يوم؟
في ظل هذا الواقع، يبدو أنّ القرار الأخير لم يفتح باباً للتعاون الرياضي بقدر ما فتح باباً لنقاش أوسع حول المساواة والعدالة وحقوق المواطنة في لبنان. وربما يبقى هذا النقاش مفتوحاً طويلاً إذا لم تشهد القوانين تعديلاً جذرياً.



