“قطاع صحي متأزم شمال غرب سوريا: الحكومة الجديدة تحاول التعافي وسط قيود التمويل والكادر”

مصطفى حاج سلوم – إدلب
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 و حتى لحظة إعداد التقرير لم تخرج المرافق الصحية في شمال سوريا من دائرة الخطر تحولت المستشفيات والمراكز الطبية إلى خط مواجهة أول بين حياة المدنيين والموت لكنها نفسها أصبحت هدفا مباشرا للهجمات العسكرية ومسرحا للدمار و مصدراً لشهادات إنسانية مأساوية
على مدار أكثر من عقد واجه هذا القطاع أزمات متلاحقة: استهداف متكرر من الطيران الروسي نزوح آلاف الكوادر الطبية عجز مالي يهدد بإغلاق عشرات المرافق وصولاً إلى جائحة عالمية وزلزال مدمرعمق جراح المنطقة وبينما تتشبث المستشفيات الميدانية بما تبقى من دعم محلي ودولي يعيش ملايين المدنيين على أمل أن تبقى هذه المرافق صامدة ولو بالحد الأدنى في وجه انهيار صحي غير مسبوق.
الانهيار المبكر (2011–2014)
مع توسع رقعة الحرب منذ عام 2011 وجه ملايين المدنيين أنظارهم نحو المرافق الصحية المتبقية على أمل البقاء على قيد الحياة لكن هذه الآمال سرعان ما تصادمت مع الواقع القاسي توقف دعم وزارة الصحة على تقديم الخدمات في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة
ما دفع السكان للاعتماد على بدائل محدودة تمثلت في مستشفيات ميدانية وعيادات متنقلة أقامتها منظمات محلية ومتطوعون.
غير أن هذه المبادرات سرعان ما تحولت إلى أهداف عسكرية. بحسب تقارير دولية ومنظمات محلية شهدت تلك السنوات أولى الهجمات الموثقة ضد المرافق الطبية ما أسفر عن مقتل أعداد من الأطباء والممرضين وحرمان آلاف المدنيين من حقهم في العلاج مثل ذلك بداية انهيار مبكر للنظام الصحي في الشمال السوري وأسس لمرحلة طويلة من الاستهداف الممنهج التي استمرت في السنوات التالية
سنوات النار (2015–2019)
بين عامي 2015 و 2019 واجه القطاع الصحي في الشمال السوري واحدة من أكثر الفترات القاسية منذ اندلاع الحرب المستشفيات والعيادات لم تعد مجرد مراكز للعلاج بل أصبحت ساحات مواجهة يومية بين المدنيين والهجمات العسكرية من قبل الطيران الروسي.
كما وثقت تقارير منظمات طبية محلية مئات الغارات الجوية والقصف المدفعي على مرافق صحية من بينها مستشفى معرة النعمان الوطني الذي خرج عن الخدمة أكثر من مرة بسبب القصف المتكرر أدت هذه الهجمات إلى نزوح آلاف الكوادر الطبية ما قلص القدرة على تقديم خدمات تخصصية مثل الجراحة والعناية المركزة وزاد من معاناة السكان الذين أصبحوا محرومين من علاج أساسي.
شاهد من الميدان
نقلاً عن منظمة أطباء بلا حدود “الأدلة المصورة لقصف مستشفى معرة النعمان”
“بتاريخ 15 فبراير/شباط 2016 تعرض مستشفى معرة النعمان الذي تدعمه أطباء بلا حدود لقصف صاروخي وقتل على إثره 25 شخصاً بينهم موظف في أطباء بلا حدود وأصيب 11 آخرين تم نقل المصابين إلى مستشفى آخر تعرض بدوره هو الآخر إلى قصف في وقت لاحق من اليوم نفسه وعلى إثر الهجوم قام الدكتور “ميجوتيرزيان” رئيس منظمة أطباء بلا حدود فرنسا باتهام التحالف الروسي السوري علناً بأنه المسؤول عن الغارات “
” وهو اتهام مبني على تحليل السياق والقوى العسكرية الموجودة وشهادات من مدنيين سوريين (بعضهم تعرفهم منظمة أطباء بلا حدود منذ مدة) كانوا موجودين في المشهد”
الجائحة تضاعف معاناة القطاع الصحي في شمال غرب سوريا (2020–2022)
مع تفشي جائحة كوفيد – 19 واجهت المستشفيات والمراكز الصحية في إدلب وريف حلب تحديات غير مسبوقة حيث افتقرت العديد من المرافق إلى وحدات العزل الكافية وأجهزة التنفس الاصطناعي فيما عانت الطواقم الطبية من نقص حاد في معدات الوقاية الشخصية ما عرضهم لخطر العدوى أثناء تقديم الرعاية اليومية للمرضى
“لم أشتر كمامة قط بالكاد أستطيع شراء خبز عندما يتاح لي الخيار أختار الخبز دائما”
تقول أم فراس في حديث مع منظمة أطباء بلا حدود وهي من سكان مخيم أبو دالي شمال غرب سوريا
ومن ضمن السياق أضافت ممرضة تعمل في ريف حلب:
“كنا نعاني من نقص الكمامات والقفازات وكثير من الطواقم أصيبت بالفيروس ما زاد الضغط علينا ومع ذلك استمررنا في تقديم الرعاية رغم الخوف والإرهاق”
وأشارت تقارير صحية أممية إلى تراجع ملموس في برامج أساسية مثل التطعيم ورعاية الحوامل نتيجة القيود المفروضة على الحركة ونقص التمويل الطبي ما زاد من التحديات امام النظام الصحي
الزلزال الكارثي (2023)
في شباط/فبراير 2023 ضرب زلزال مدمر شمال سوريا وجنوب تركيا متسبباً في تضرر عشرات المرافق الصحية بينها مستشفيات ميدانية كانت تعمل بطاقة محدودة. تقارير منظمة الصحة العالمية أكدت أن بعض المرافق توقفت تماماً عن العمل فيما واجهت المستشفيات العاملة ضغطاً غير مسبوق لعلاج آلاف المصابين.
في تقرير سابق للجنة الإنقاذ الدولية يقول الدكتور جاسم منسق الصحة في لجنة الإنقاذ الدولية في سوريا:
“لقد كان الوضع مدمرا” – “كان نظام الرعاية الصحية يعاني أصلا تحت وطأة أكثر من اثني عشر عاماً من الأعمال العدائية وأزمات الصحة العامة المتعددة مثل جائحة كوفيد-19 ومؤخرا تفشي وباء الكوليرا. وقد أثر الصراع الذي استمر لأكثر من عقد من الزمان بشدة على توافر الكوادر الصحية المؤهلة والإمدادات الطبية والخدمات داخل سوريا وغالبا ما تعجز الخدمات المتاحة عن التعامل مع حجم ونوع الإصابات التي نشهدها الآن. ويفتقر الكثيرون حتى إلى وسائل الوصول إلى مراكز الرعاية الصحية لتلقي العلاج بسبب الأضرار التي لحقت بالطرق والمباني وسيزداد عدد المرضى سوء حيث يترك الناجون من هذه الكارثة في درجات حرارة متجمدة بسبب تدمير منازلهم وما لم نحصل على المزيد من التمويل والإمدادات ووصول المساعدات الإنسانية دون قيود وبشكل عاجل فقد تكون النتائج كارثية”
كما أفاد عاملون صحيون في الميدان بأن بعض المرافق اضطرت إلى إخلاء أقسام نتيجة الأضرار الهيكلية مع استمرار تقديم الرعاية في ظروف محدودة وقاسية
تراجع التمويل واستمرار التهديد (2024–2025)
رغم مرور أكثر من عقد على الحرب ما يزال النظام الصحي في شمال سوريا يترنح تقارير منظمات طبية حذرت من أن فقدان الدعم الدولي سيترك ملايين المدنيين بلا خدمات أساسية.
في ذات السياق حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في مايو/أيار 2024 من توقف 160 منشأة صحية عن العمل في شمال غرب سوريا بما في ذلك 46 مستشفى كان سيضطر إلى تعليق عملياته بحلول منتصف العام لعدم وجوده على قوائم أولويات التمويل الإغاثي من قبل المنظمات الإنسانية.
من الميدان يقول “ديبو الأخرس” رئيس بلدية كفرحلب في ريف حلب الغربي:
“بعد التحرير لم نتمكن من إعادة تشغيل المستوصف في القرية لعدم توفر الدعم المالي والمعدات اللازمة المستوصف كان يمثل قلب الرعاية الصحية للقرية والقرى المجاورة ويعتمد عليه آلاف السكان يوميا الآن يضطر السكان لقطع نحو 30 كيلومتر للوصول إلى أقرب مستشفى ما يعرض المرضى خصوصا الأطفال وكبار السن لمخاطر كبيرة أثناء الحالات الطارئة هذا النقص ليس مجرد مشكلة صحية بل أصبح عاملا يؤثر على إمكانية عودة الأهالي من المخيمات إلى قراهم ويزيد من الضغط النفسي والمالي على الأسر”
محاولات من الحكومة الجديدة في تحسين القطاع الصحي
سعت الحكومة السورية الجديدة بعد توليها السلطة في 2025 إلى تعزيز القطاع الصحي المتدهور في البلاد عبر سلسلة من المبادرات شملت هذه الجهود زيادة رواتب العاملين في القطاع الطبي بنسبة 200% لتعزيز استقرار الكوادر وتشجيعهم على العمل في المناطق المتضررة إضافة إلى إعادة تأهيل المنشآت الصحية المتضررة
من خلال عقود شراكة مع منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية في تصريح سابق “لعنب بلدي” يقول وزير الصحة مصعب العلي ” أن الوزارة تضع الإنسان أولاعلى رأس أولوياتها ” وأشار إلى ترميم أكثر من 40 مركزا صحيا و13 مستشفى وافتتاح 12 مركزا جديدا وتزويد المنشآت بـ 188 جهازا طبيا ومحطات أوكسجين ومصادر طاقة شمسية بهدف تمكين كل مواطن من الحصول على العلاج والخدمة الصحية اللازمة.
و أشار إلى وجود اتفاقيات موقعة مع دول قطر والبحرين والكويت بانتظار تفعيلها بالإضافة إلى اتفاقية مع منظمة “إيميرجنسي ” الإيطالية لتجهيز مستشفى “الرستن” في حمص واتفاقية مع تركيا لتأهيل مستشفى “القلب” في دمر ومستشفى الأورام في حلب.
رغم الجهود المبذولة من الحكومة السورية الجديدة لتعزيز القطاع الصحي بما في ذلك زيادة رواتب الكوادر الطبية وإعادة تأهيل المنشآت الصحية وإقامة شراكات مع المنظمات الدولية يظل التحدي كبيرا أمام تلبية احتياجات السكان المحليين والنازحين ويشير الواقع الميداني إلى أن نقص الكوادر المدربة وتدهور بعض المرافق وقيود التمويل ما زالت تشكل عقبات رئيسية أمام تقديم الرعاية الصحية الأساسية. ومع ذلك تمثل هذه المبادرات خطوة مهمة نحو بناء نظام صحي أكثر استقرارا وقدرة على الاستجابة للأزمات ما يستدعي استمرار الدعم المحلي والدولي لضمان وصول الخدمات الصحية لجميع الفئات الأكثر حاجة في شمال غرب سوريا.
مصدر الصورة صحفية الشرق الأوسط 6 مايو 2019 مشفى كفرنبل