يوميات رشا أبوجلال في مدينة غزة ……..(الجزء الثاني) الصمود والإرادة للبقاء مفلسين

ترجمة حصرية وتحرير: عصام حريرة
مع استمرار العدوان “الإسرائيلي” المتواصل، تتلاشى الرغبة في التمسك بمنزل قد يزول للأبد، لتحل محلها غريزة البقاء؛ فبعد صمودهم غرب مدينة غزة لأطول فترة ممكنة، انضمت رشا أبو جلال وزوجها وأطفالهما الخمسة إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين أجبروا على مغادرة مدينة غزة الرئيسية، بسبب القصف “الإسرائيلي” المكثف، وفرّوا جنوبًا في 16 أيلول/ سبتمبر.
مع سعي الجيش “الإسرائيلي” للسيطرة على مدينة غزة وتشريد سكانها، ربما بشكل دائم، كتبت “أبو جلال” في الأول من أيلول/ سبتمبر في مذكراتها التي تحتفظ بها لصحيفة “ذا نيو هيومانيتاريان”: “لم يعد البقاء مجرد قرار، لقد أصبح معركة هوية ووجود”.

لكن بحلول 13 أيلول/ سبتمبر، ومع سقوط منشورات على الحي الذي كانت تقيم فيه تحذر الناس من الإخلاء العاجل، وبدأ نازحون آخرون في المنطقة بالفرار، كتبت “أبو جلال”: “لم أعد أجد كلماتٍ لإقناعهم بالبقاء.. ربما كانوا على حق؛ حق البقاء أسبق من أي اعتبار آخر”.
سرعان ما أصبحت “أبو جلال” وعائلتها الوحيدين المتبقين في الحي.. لقد اختبأوا في جدران متداعية لمنزل مهجورة بينما كانت طائرات مروحية تجوب السماء وتطلق النار عشوائيًا، فكتبت: “منعت أطفالي من إحداث أي ضجيج أو اللعب في الخارج.. كانت إمداداتنا من الماء والطعام تتضاءل، رغم التقنين.. لم تكن سوى مسألة وقت قبل أن تكتشفنا تلك الطائرات المسيرة”.
اقرأوا رواية “أبو جلال” المروعة عن أيامها الأخيرة في مدينة غزة.. كيف كسر هجوم “إسرائيل” المتواصل إرادة الناس في الصمود بينما سيطرت غريزة البقاء على عقولهم، وبداية رحلة عائلتها جنوبًا.

8 أيلول/ سبتمبر 2025 – هجمات “إسرائيل” على المباني الشاهقة:
اليوم، قصفت “إسرائيل” برج رويا، أحد أكبر الأبراج السكنية في مدينة غزة.. لم يقتصر الهجوم على تدمير كتلة خرسانية شاهقة فحسب؛ لقد انهار عالمٌ بأكمله كان يأوي أحلام الناس وشعورهم بالاستقرار.
فقد شنّ الجيش “الإسرائيلي” حملةً ممنهجةً لهدم أكبر وأشهر المباني السكنية في المدينة، والتي تحوّلت خلال الحرب إلى ملاجئ لمئات، وربما آلاف، العائلات التي فقدت منازلها.
بعد هدمه بقليل، وقفتُ بجانب أنقاض برج رويا، حيث امتدّت حوله خيام النازحين، بعضها ممزّق وبعضها مدفون تحت الأنقاض.. التقيتُ بامرأةٍ نازحة تُدعى فاطمة سليمان؛ كانت في التاسعة والثلاثين من عمرها، تقف مصدومةً أمام الفراغ الذي كانت تقف فيه خيمتها، وقد محاه انهيار البرج.
“إلى أين ستذهبين الآن وقد دُمّرت خيمتكِ؟”، سألتها.
رفعت رأسها وعيناها يملؤهما الحزن والإرهاق، وأجابت: “لم يعد لديّ مكانٌ هنا… سأضطرّ إلى الفرار مع أطفالي جنوبًا، لكننا سنمشي أكثر من عشرين كيلومترًا سيرًا على الأقدام، لأننا لا نملك المال لدفع حتى أجرة عربة”.
ثم أشارت بيدها المرتعشة إلى أطفالها الثلاثة المتحلقين حولها: “انظروا إليهم، أصغرهم لم يبلغ الرابعة بعد.. كيف سيتحمل المشي كل هذه المسافة؟ بالكاد لديهم ما يكفي من الطعام، وأقدامهم الحافيّة لا تتحمل حجارة الطريق”.
“ألم تحاولوا الحصول على خيمة أخرى؟” سألتها.
أجابت بصوت أجش: “أبحث منذ الصباح، لكن جميع العائلات هنا فقدت خيامها أيضًا.. لا توجد خيام إضافية، ولا حتى قطعة قماش لتغطية رؤوسنا.. سننام الليلة في الشارع، تحت السماء وفي العراء وسط الغبار والركام”.
“كنا نبحث عن سقف نأوي إليه.. الآن ينقصنا حتى قطعة قماش.. لم تترك لنا إسرائيل شيئًا؛ لا منزل، ولا خيمة، حتى وهم الأمان لم يبقَ.”
إن قصف برج رويا وغيره من القصف أجبر مئات الأشخاص على رحلة نزوح أخرى؛ رحلة بلا نهاية معروفة.

9 أيلول/ سبتمبر 2025 – بدت السماء وكأنها تحترق:
يحيط بنا الخوف أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا بعد أن أصدر رئيس الوزراء “الإسرائيلي”، بنيامين نتنياهو، تحذيره لأهالي مدينة غزة بالإخلاء التام.. ومع ذلك تواصل العائلات هنا تحدي أوامر الفرار جنوبًا، مصرين على البقاء في منازلهم وخيامهم وأحيائهم.
بعد تحذير “نتنياهو” أمطرتنا عشرات الغارات الجوية المكثفة،وكان هناك غاراتأخرى على المباني السكنية التي تؤوي مئات العائلات النازحة غرب مدينة غزة.. استهدفت إحدى هذه الغارات مبنى عائلة الساعاتي المكون من أربعة طوابق.. قبل بضعة أشهر فقط تمكنت هذه العائلة من حفر بئر داخل منزلها لتوفير المياه لمئات العائلات النازحة.. فقد قطعت “إسرائيل” إمداد المياه عن مدينة غزة منذ فترة طويلة.
أصبح بئر عائلة الساعاتي مصدر حياة وركيزة صمود للعديد من العائلات.. لكن “إسرائيل” لم تتحمل هذا، فحولت المبنى إلى ركام.. الآن ستعاني العديد من العائلات النازحة غرب مدينة غزة من العطش.. كأن “إسرائيل” تريد أن تقول لنا: “إن أردتم الماء، فاهربوا جنوبًا”.
إن ما يحدث جريمة حرب مكتملة الأركان، تجري وسط صمت عالمي مُخزٍ.
في الوقت نفسه، قصفت “إسرائيل” اليوم العاصمة القطرية، الدوحة، بزعم استهدافها قيادة حماس.. أثار الهجوم حالة من الارتباك والقلق بين الناس هنا.. فقد هرعت جارتي إليّ لتسألني عن الأمر، ظانةً أنني كصحفية قد أكون قادرةً على التنبؤ بما سيحدث لاحقًا.
قلت لها: “لا أحد يستطيع كبح جماح إسرائيل، إنها تفعل ما تشاء”.. سألتني جارتي بقلق: “هل سيزيد هذا من سوء وضعنا؟” أجبت: “نحن منسيون هنا، وليس أمامنا خيار سوى الصمود مهما ساءت الأمور”.. بدت وكأنها لم تستوعب كلماتي تمامًا، لكن قبل أن تغادر تمتمت: “الموت أرحم من هذه الحياة”.
في التاسعة مساءً، كنت أُجهّز فراش أطفالي داخل الخيمة عندما فسمعت ضجيجًا بالخارج.. كان الناس يتجمعون وينظرون إلى السماء.. كانت القنابل “الإسرائيلية” تُضيء سماء الليل فوق رؤوسنا مباشرة.. بدت السماء كأنها تحترق.. كان الأمر مرعبًا.. تريد “إسرائيل” إجبارنا على الفرار بكل الوسائل الممكنة؛ غارات جوية متواصلة، واستهداف مصادر المياه، والآن حرماننا من الراحة ليلًا.
خرج أطفالي من الخيمة، وأعينهم شاخصة من الدهشة.. سألتني ابنتي ببراءة: “أمي، ما هذا؟” لم أستطع إخبارها بالحقيقة، فكذبتُ عليها: “إنها ألعاب نارية أطلقها أهل الحي المجاور احتفالًا بزفاف”.. عادت معي بهدوء إلى الخيمة، لكنني كنت متأكدة من أنها لم تُصدقني.

10 سبتمبر 2025 – لقد تأخرنا مائة عام:
اليوم، أثقلتني الأعمال المنزلية التي لا أملك خيارًا سوى القيام بها بأبشع الطرق.. لقد فقدنا في حياتنا هنا كل رفاهية عصرية.. أوفى نتنياهو بوعده الذي قطعه في اليوم الأول من الحرب، بإعادة غزة خمسين عامًا إلى الوراء.. إنني أعتقد أننا تأخرنا مائة عام.
كل شيء هنا صعب للغاية.. حتى أبسط المهام تتطلب جهدًا جهيدًا ومعاناة ضخمة.. يأتي جاري إليّ كل صباح يتنهد ويقول بصوت ممزوج بالغضب والحزن: “كيف للعالم أن يصمت عن هذه الحرب التي تُشنّ علنًا ضد المدنيين دون أن يحرك ساكنًا؟”
لم يعد هذا السؤال يُقلقني كما كان في السابق.. لقد اعتدتُ الصمت والامبالاة.. كل ما أريده هو أن يمرّ اليوم دون أن أسمع أن الجيش “الإسرائيلي” يقترب منا.
الساعة الآن الرابعة عصرًا.. تلقى سكان مبنى سكني من ستة طوابق بالقرب منا إنذارًا من الجيش بالمغادرة فورًا.. مُنحوا 20دقيقة فقط للإخلاء.. لم يكن هذا الوقت القصير كافيًا لفعل أي شيء.. رأيت عائلات تائهة في حيرة؛ هل يأخذون طعامًا أم ماءً؟ ملابس أم فراشًا؟ في النهاية فرّ النساء والأطفال بأنفسهم لا يحملون شيئًا على الإطلاق.
لكن المأساة لم تنتهِ عند هذا الحد.. غادرت عشرات العائلات النازحة المقيمة في مخيم قريب خيامها، خوفًا من أن يصل إليهم القصف.. وعندما عادوا بعد القصف، لم يجدوا شيئًا؛ فقد تحولت خيامهم إلى رماد.
يتكرر هذا المشهد كل يوم في غزة.. يعيش الناس هنا في جحيم متجدد لا نهاية له.
الساعة الآن العاشرة مساءً.. كان أطفالي نائمين عندما أضاءت السماء فجأة بقنابل “إسرائيلية”.. اندفع الناس خارج خيامهم يحدقون في السماء بينما تحول الليل إلى نهار.. آخر مرة رأينا فيها الليل مضاءً بهذا القدر كانت يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اليوم السابق للحرب. منذ ذلك الحين، قطعت “إسرائيل” الكهرباء عن غزة تمامًا، وما زلنا نعيش في ظلام دامس.. نعم نعيش بلا كهرباء.. نعيش في جحيم لا يُطاق.
لكن الأسوأ جاء عندما سقطت إحدى القنابل المضيئة على خيمة تؤوي أرملة مع أطفالها الأربعة، فاندلعت فيها النيران.. سارع الناس لإطفائها.. تمكنوا من إنقاذ العائلة، لكن بعض الأطفال أصيبوا بحروق.. شاهدت المشهد بقلق عميق ممزوج باليأس، ثم عدتُ إلى خيمتي، مدركةً أن يومًا طويلًا آخر ينتظرني غدًا.
هذا ما نواجهه في غزة.. الموت يأتي بأشكال متعددة؛ قصفًا، جوعًا، مرضًا، أو حريقًا.

11 سبتمبر 2025 – “نفضل الموت هنا على العيش في خيام الذل والجوع“:
استيقظتُ على تسلل أشعة الشمس من النافذة الصغيرة لخيمتنا على وجهي.. للحظة شعرتُ أنها تدعوني إلى الحياة، لكن صوت الطائرات سرعان ما أعادني إلى الواقع.
اليوم، واصلت “إسرائيل” قصف الأبراج السكنية في مدينة غزة التي تؤوي مئات العائلات التي رفضت الإخلاء إلى الجنوب.. من الواضح أن الهدف هو إجبار الناس على الفرار.. كل برج يُدمر لا يؤثر على سكانه فحسب، بل على المنطقة المحيطة به بأكملها؛ فعشرات العائلات النازحة تفقد ملاجئها الهشة القريبة وتُترك مرة أخرى في العراء.
اليوم، انهار مبنى سكني آخر بالقرب مني بعد غارات متتالية.. من بعيد شاهدتُ رجالًا ونساءً يتدافعون إلى الشوارع في حالة هستيرية، يحملون أطفالهم بين أذرعهم ويركضون بأقصى سرعة، بينما لا تزال الطائرات تحلق في السماء. كان هناك أطفال يبكون، ونساء يصرخن، ورجال يركضون في كل اتجاه.. دقائق معدودة كانت كافية لتحويل المبنى إلى جبل من الأنقاض، وإضافة عشرات العائلات إلى قائمة النازحين بلا مأوى.
سمعتُ امرأةً تصرخ وهي تمسك بيد ابنتها الصغيرة: “لن نرحل جنوبًا، نفضل الموت هنا على العيش في خيام الذل والجوع”.
رغم كل شيء، لا تزال عائلات كثيرة ترفض الإخلاء.. يقولون إن الفرار لا ينقذهم من الموت، بل يؤجله فقط.. موتٌ بالقصف هنا أو موتٌ بالجوع هناك.
في المساء، كان المخيم من حولي يعجّ بالحديث عن الأبراج المهدمة.. جلس بعض الرجال يتناقشون حول جدوى البقاء، بينما انشغلت النساء بمحاولة تهدئة الأطفال الذين ما زالوا مرعوبين من أصوات الانفجارات.
أما أنا فعدت إلى خيمتي.. جلستُ أكتب هذه السطور بينما حاول أطفالي النوم.. في الخارج لم تغادر الطائرات السماء، فكان صوتها يُعلن أن الليل لن يكون أهدأ من النهار.
13 أيلول/ سبتمبر 2025 – بكيت لأني أحب مدينتي غزة
لم يعد هناك أمل في قلبي.. سيطر عليّ اليأس بعد ليلةٍ قضيناها بلا نوم بسبب القصف “الإسرائيلي” المكثف الذي استهدف المباني السكنية بشكل ممنهج.. لم أعد أجد كلماتٍ تصف شدة الضربات ودوي الانفجارات.
أصبح الصامدون رب مدينة غزة، الرافضون للنزوح جنوبًا، على قناعةٍ بأن البقاء هنا لم يعد مجديًا.. علقوا آمالًا كبيرة على التوصل قريبًا لاتفاق لوقف إطلاق النار، لكن الغارة الجوية “الإسرائيلية” في قطر، التي تلعب دور الوسيط في هذه المفاوضات، أخمدت آخر تلك الآمال.
استيقظت هذا الصباح على ضجيجٍ من حولي؛ الناس يغادرون.. كان المشهد أشبه بخنجرٍ في قلبي.. رأيت رجلًا يقتلع خيمته من جذورها وهو يلملم ملابس عائلته وأغطية فراشها ويكدسها على عربة يدوية. بعد لحظات، سقطت منشورات ورقية من السماء؛ منشورات ألقاها الجيش “الإسرائيلي”، تحمل بأحرف حمراء كبيرة “تحذير عاجل” وبأحرف أصغر “أنت في منطقة قتال خطرة، من أجل سلامتك، أخلِ المكان فورًا إلى الجنوب”.
أثارت تلك المنشورات فوضى عارمة بين الناس.. مزّقها معظم سكان الخيام وبدأوا الرحيل جنوبًا.
لم تعد لديّ كلمات لإقناعهم بالبقاء.. ربما كانوا على حق؛ حق البقاء أسبق من أي اعتبار آخر.. سيطر عليّ اليأس لدرجة أنني بدأت أفكر في الرحيل جنوبًا، لكن أجرة المواصلات تفوق طاقتنا.. كانت تكلفة المواصلات من مدينة غزة إلى الجنوب حوالي 120 دولارًا.. الآن ارتفعت إلى 900 دولار.. شُلّ عقلي.
تحدثت مع زوجي، الذي يُفضّل الرحيل جنوبًا.. قلت له بصراحة: “أنت محق.. الإخلاء هو خيارنا الأخير الحتمي”. دخلت خيمتي وبكيت كثيرًا.. بكيت لأني أحب مدينتي غزة، مسقط رأسي والتي نشأت فيها، واليوم أُجبر على مغادرتها.. بكيت لأني أشعر بالهزيمة في هذه الحرب، ولأنني لم يعد لدي أمل في أي شيء إيجابي.
15 أيلول/ سبتمبر 2025 – الصمود والإرادة للبقاء مفلسين:
على مدار اليومين الماضيين، لم يكن يدور في ذهني سوى الفرار.. فقد صعّدت “إسرائيل” عمليتها العسكرية بشدة لدفع السكان جنوبًا. مزيد من المباني السكنية تُدمّر بالغارات الجوية، والطائرات المسيّرة المروحية في كل مكان، تُطلق النار على أي شيء يتحرك.
هنا، الصمود والإرادة للبقاء مفلسين، وبدأت جميع العائلات تبحث عن مخرج للنجاة من الموت.
أما أنا، فقد فكرت في احتمال أن يكون هذا التصعيد مؤقتًا وأن يعود الهدوء.. حاولتُ الصمود لفترة أطول، رافضةً فكرة النزوح جنوبًا.. لم أستطع تقبّل فكرة مغادرة مدينتي غزة.
هربتُ أنا وعائلتي إلى منزل هجره سكانه للتو، بحثًا عن مأوى داخله.. اخترقت عدة شظايا من الغارات الجوية القريبة خيمتي.. أوينا إلى هذا المنزل يومي 14 و15، مختبئين من الطائرات المسيّرة الرباعية المروحيات.. منعت أطفالي من إحداث أي ضجيج أو اللعب في الخارج.. كان ما معنا من الماء والطعام تتناقص، رغم تقنين الاستعمال.. لم تكن سوى مسألة وقت قبل أن تكتشفنا تلك الطائرات المسيرة.. لم يبقَ أحد في الحي السكني الذي كنا فيه سوانا.. أدركنا أن هذا لن ينجح في حمايتنا طويلًا.
16سبتمبر 2025 – طريق العذاب:
قرر زوجي اتخاذ خطوة حاسمة؛ الذهاب بمفرده إلى جنوب قطاع غزة بحثًا عن أي مكان لنصب خيمتنا.. لم تعد هناك أرض خالية متاحة في الجنوب.. فقد كان النازحون ينصبون خيامهم على الطرق، وعلى شاطئ البحر، وخلف جدران المباني السكنية.
اتصل زوجي بأكثر من 15سائق شاحنة ليأخذوه مع أمتعتنا إلى الجنوب، لكن أحدًا لم يفعل.. رفضوا جميعًا إنقاذنا من هذا المكان الذي أصبح بالغ الخطورة.
عندها، تغيرت الخطة تمامًا.. لم يذهب زوجي مع أمتعتنا إلى الجنوب.. فبدلًا من ذلك سنذهب جميعًا معًا، تاركين أمتعتنا خلفنا.. لم يكن هناك سبيل لحفظ ما نحتاجه؛ فرشنا، بطانياتنا، خيمتنا، وأدوات الطبخ.. الآن سنغادر بلا شيء، نحاول فقط النجاة.
بدأ هروبنا.. كانت الساعة الرابعة عصرًا.. في تلك اللحظة غلب دوري كأم على دوري كصحفية؛ فلم أفكر في التوثيق، لم أفكر في تصوير ما مررنا به.. فكرت في شيء واحد فقط؛ حماية أطفالي وإنقاذهم.. كانت غريزة الأمومة تعلبني.
ارتدينا ملابس وأحذية خفيفة لتساعدنا على التحرك بشكل أسرع.. غادرنا المنزل الذي لجأنا إليه.. الشارع الذي كان يعج بالحياة والناس قبل أيام فقط أصبح الآن صامتًا وخاليًا تمامًا.. كنا الوحيدين الذين نتحرك في ذلك الشارع.
انطلقنا سيرًا على الأقدام حاملين حقائب ظهر صغيرة مليئة بالطعام والماء.. حتى أطفالي كانوا يحملون حقائب ثقيلة.. حلقت طائرات مروحية في السماء، تطلق النار عشوائيًا.. ظننتُ أن أحدهم رآنا، لكن سرعان ما سلكنا طرقًا جانبية حتى وصلنا إلى شارع الرشيد، الطريق الساحلي الذي أصبح طريق الفرار الرئيسي للنازحين من جميع أنحاء مدينة غزة.
قبل الحرب، كان هذا الطريق رمزًا ثقافيًا، يعكس حياة مدينة غزة.. كان ممشىً للمتنزهين، تصطف على جانبيه أشجار النخيل الباسقة.. أما الآن فقد دُمّر تمامًا، وضيّقته أنقاض المنازل على جانبيه، واختفت الأشجار تمامًا.
كان الطريق مكتظًا بمئات المركبات والشاحنات المحملة بالناس والأمتعة، وعلى جانبيه آلاف الأشخاص يسيرون على الأقدام.. انضمت إليهم عائلتي.
كانت الساعة تقترب من التاسعة مساءً.. كان الطريق طويلًا جدًا.. للوصول إلى بداية جنوب قطاع غزة، كان يتطلب المشي لمسافة 15 كيلومترًا.. لم أفكر في شيء سوى أطفالي.. هل سيتحملون هذه الرحلة؟
كنا نتوقف كل ساعتين لتناول بعض البسكويت والخبز وشرب الماء.. بحثنا مليًا عن أي مكان في الشاحنات المارة بجانبنا لإنقاذنا من هنا، لكننا لم نجد.. كانت الشاحنات مليئة بالأمتعة، وفوقها نساء وأطفال ورجال.
نظرتُ إلى هذه المشاهد بمرارة.. بكيت كثيرًا لقسوة هذه الظروف وقلة الرحمة في هذا العالم.. واصلنا السير حتى منتصف الليل.
المصدر: موقع ذا نيو هيومانيتيريان
The New Humanitarian