جريتا تونبرغ… حين تتحول الإنسانية إلى جريمة

إيهاب الكيالي-كاتب ومحلل سياسي/ اسطنبول
في عالمٍ يزداد صمتًا أمام المأساة، تبرز فتاةٌ من أقصى الشمال الأوروبي لتذكّرنا بمعنى أن تكون إنسانًا. جريتا تونبرغ، الفتاة السويدية ذات الاثنين والعشرين عامًا، لم تُعرف فقط كأيقونة عالمية في الدفاع عن المناخ، بل تحولت اليوم إلى رمزٍ للضمير الحرّ في مواجهة آلة القمع والاحتلال، بعدما ضجّت مواقع التواصل بخبر احتجازها في سجن النقب الإسرائيلي، إثر محاولتها كسر الحصار المفروض على قطاع غزة.
ورغم غياب التأكيدات الرسمية حول تفاصيل احتجازها، إلا أن القصة — بما تمثله من دلالات إنسانية — تتجاوز حدود الواقعة ذاتها، لتغدو مرآةً كاشفةً لزمنٍ يتوارى فيه صوت الضمير خلف حسابات المصالح، ويُترك فيه الأحرار يواجهون مصيرهم وحدهم.
من بيت الرفاهية إلى خنادق النضال
ولدت جريتا تونبرغ في بيتٍ تغمره الرفاهية والفن: والدتها مغنية أوبرا عالمية، ووالدها أحد أبرز منتجي السينما في السويد. كان يمكن لتلك الفتاة أن تكتفي بترف الشهرة والضوء، وأن تبقى في قصورها الأوروبية تتحدث عن العالم من خلف الزجاج.
لكنها اختارت مسارًا آخر؛ طريقًا مليئًا بالتعب، والاحتجاج، والوقوف في وجه الظلم مهما كان بعيدًا عنها.
لم يكن اهتمام جريتا محصورًا في قضايا البيئة والمناخ كما اعتاد العالم أن يراها، بل امتدّ حسّها الإنساني ليشمل القضية الفلسطينية، فكانت من أوائل الأصوات الأوروبية التي أدانت العدوان على غزة ودعت إلى رفع الحصار.
ركبت البحر مرتين لكسر القيود المفروضة على الفلسطينيين، متحدّية المخاطر البحرية والسياسية معًا، لتثبت أن التضامن لا يحتاج إلى هوية أو دين أو لون، بل إلى قلبٍ يؤمن بالحق.
الاحتلال يخاف من الرموز
تقول بعض الروايات المتداولة إن قوات الاحتلال أوقفتها أثناء إحدى محاولاتها الإبحار نحو غزة، وسُحلت وأُهينت، في مشهدٍ يختزل ما يفعله الاحتلال يوميًا بحق الفلسطينيين.
سواء كانت هذه التفاصيل دقيقة أو رمزية، فإنها تعبّر عن حقيقةٍ أعمق: الخوف من الرموز.
الاحتلال الذي يملك أحدث الأسلحة والتقنيات، يخاف من فتاة تحمل كلمة. يخشى من صورة تُظهر شابة أوروبية تتعرض للعنف لأنها قالت “كفى”.
ذلك لأن الكلمة حين تخرج من فمٍ لا مصلحة له سوى الدفاع عن الحق، تصبح أقوى من الرصاص، وأخطر من كل آلة عسكرية.
ثمن الإنسانية
جريتا، التي ولدت في بيت الفن والرفاه، تدفع اليوم ثمن إنسانيتها، كما يدفعه كل فلسطينيٍّ محاصر أو معتقل أو مُهجّر.
لقد رفضت أن توقّع على تعهدٍ بعدم الإبحار مجددًا نحو غزة، مفضّلةً الزنزانة على الصمت، والحق على الراحة، والكرامة على القصور.
بهذا الموقف، أحرجت العالم بأسره — حكوماتٍ ومنظماتٍ وأفرادًا — وكشفت أن معركة الحرية لا تحتاج إلى جغرافيا واحدة، بل إلى ضميرٍ واحد.
صمت المؤثرين وضجيج الأحرار
في الوقت الذي ينشغل فيه كثير من المؤثرين العرب والمسلمين بالترف والمظاهر، تتقدم جريتا بخطوات ثابتة لتُعيد تعريف البطولة.
ليست ابنة هذه الأرض، ولا تتحدث لغتها، لكنها آمنت بأن العدالة لا تُجزأ، وأن ما يحدث في غزة لا يخص الفلسطينيين وحدهم، بل يخصّ الإنسانية جمعاء.
ذلك التناقض بين صمت القريب وصوت البعيد هو ما يجعل قصتها مدوّية إلى هذا الحد.
إنها ليست مجرد فتاة من السويد، بل رمزٌ لكل ضميرٍ اختار أن لا يساوم، وأن يقول الحقيقة في وجه القوة.
التاريخ لا ينسى
سيكتب التاريخ أن فتاة من أقصى شمال أوروبا، في عمر الثانية والعشرين، تركت خلفها مجد الشهرة وبريق الجوائز، لتقف إلى جانب من لا يملكون شيئًا سوى إيمانهم بحقهم في الحياة.
وسيسجل التاريخ أيضًا أن كثيرين ممن يمتلكون المنابر والمال والجماهير، آثروا الصمت، أو الاكتفاء بالحياد، في معركة لا تقبل الحياد.
جريتا تونبرغ لم تكن أول من نادى بالحق، ولن تكون الأخيرة، لكن حضورها الفريد جعلها شاهدة على زمنٍ يعاقَب فيه الإنسان على إنسانيته.
في الختام
سواء كانت جريتا اليوم وراء القضبان فعلاً أو لا، فإن رمزية قصتها تبقى درسًا قاسيًا للعالم:
أن الحرية تُدفع ثمنها بالوجع، وأن الكرامة لا تُشترى، وأن صوت الحق لا يُسكت مهما طال الليل.
في زمنٍ امتلأ بالخذلان، تبقى جريتا — بكل ما تمثله من نقاء الموقف وشجاعة الكلمة — مرآةً تعكس وجوهنا جميعًا: هل نقف حقًا إلى جانب المظلوم؟ أم نكتفي بالتصفيق للأبطال من بعيد؟