مقالات

ازدواجية المعايير.. المستوطن رهينة وصاحب الأرض أسير

بقلم: ضيف الله الطوالي – مراسلين

لطالما كان الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ساحة تغرق بالدم بعم غربي أعمى، كان من جهة أخرى اختبار للغة والضمير الإنساني، حيث لا تقتصر المعركة على الميدان، بل تمتد إلى العناوين الصحفية، إذ انه في أعقاب الإبادة الجماعية الاخيرة، تكشف الأبحاث عن ازدواجية معيارية صارخة في استخدام المصطلحات الدولية لوصف ما يحدث بين المقاوم والمحتل، الأمر الذي يتجاوز الحياد الصحفي ليصبح شكلاً من أشكال “الحرب الإدراكية”.
فيما يُرفع المحتجز الإسرائيلي إلى مرتبة “الرهينة” (Hostage)، وهي كلمة تحمل دلالة الضحية البريئة المختطفة بغير وجه حق لغرض المساومة، ويُخصص له “ميدان الرهائن” في تل أبيب، بينما يُصنَّف الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية ببرود تحت مسمى “الأسير” أو “السجين الأمني”.
هذا التباين ليس عَرَضياً؛ إنه تأطير ممنهج يُعزز الرواية التي ترى في الإسرائيليين ضحايا أبرياء يجب إنقاذهم، ويُصوِّر الفلسطينيين كـ”تهديد أمني” أو مُدانين بالإرهاب، ويجب اعتقالهم.

إخفاء الحقيقة

يوحي مصطلح “الأسير” أو “السجين الأمني” في التغطية الإعلامية السائدة بأن هؤلاء الأفراد أُخذوا من ساحة قتال أو اعتقلوا وفقاً لإجراءات قانونية عادلة، وخلافاً للتصور الذي يُكرّسه الإعلام، فإن جزءاً كبيراً من المحتجزين الفلسطينيين لم يُؤخذوا في سياق قتالي مباشر، ففي الضفة الغربية المحتلة، تتم عمليات الاعتقال بشكل منهجي عبر “مداهمات عسكرية” للمنازل وإقتياد الاطفال والشباب.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن نظام الاحتجاز الإسرائيلي يشمل أعداداً كبيرة من القُصر، حيث وثقت اليونيسف ومنظمات حقوق الإنسان سنوات من الممارسات المنهجية لـ “سوء معاملة الأطفال” في نظام الاحتجاز العسكري الإسرائيلي، بدءاً من لحظة الاعتقال، إن هذا الواقع، حيث يُقتاد الأطفال من منازلهم، ينسف بشكل مباشر التأطير الذي يضعه البعض على أنهم “أسرى حُرب”.

احتجاز دون تهمة

إذ أن الفئة الأكثر إخفاءً في الخطاب الإعلامي هي فئة المعتقلين إدارياً، فقد شهد عدد الفلسطينيين المحتجزين لدى إسرائيل ارتفاعاً غير مسبوق، ليبلغ 9,619 فلسطينياً بحلول نهاية ديسمبر 2024، منهم آلاف يقعون تحت طائلة الاعتقال الإداري، والاعتقال الإداري هو شكل من أشكال الاحتجاز التعسفي يتم دون تهمة أو محاكمة، وبناءً على “أدلة سرية” كما يُقال ولا يُسمح للمحامي بالاطلاع عليها.
هذا الإجراء، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنه أداة رئيسية لتطبيق نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، كان عدد المحتجزين بموجبه يرتفع باستمرار، وقد وصل إلى 3,327 معتقلاً إدارياً في ديسمبر 2024.
والهدف من استخدام مصطلح “أسير” هو طمس حقيقة أن آلافاً من هؤلاء الأفراد يُحتجزون في انتهاك صارخ لمبادئ المحاكمة العادلة.

التعذيب الممنهج وظروف “مخيمات التعذيب”

منذ 7 أكتوبر 2023، وثقت منظمات حقوقية ممارسات “التعذيب الممنهج والمعاملة المُهينة” داخل مراكز الاحتجاز الإسرائيلية، وتشمل الانتهاكات الموثقة: الإذلال والتعذيب الجسدي، وضرب مبرح، وإذلال نفسي، وإجبار المعتقلين على الركوع أثناء العد، وتجريدهم من ملابسهم وتصويرهم وهم مكبلون ومعصوبو الأعين. وقد وصفت منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية الحقوقية أن السجون تحولت إلى “مخيمات تعذيب” بحيث تم الإبلاغ عن سياسات تجويع عبر تقليل الوجبات، وتمديد حالة الطوارئ في السجون، ومنع زيارات المحامين والعائلات، الأدهى من ذلك هو أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) مُنعت من زيارة المعتقلين الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023، وقد وثقت تقارير وفاة معتقلين في ظروف غير واضحة داخل مراكز الاحتجاز.
إن إخفاء هذه الظروف اللاإنسانية تحت ستار “السجين الأمني” هو عملية تطهير لغوية للواقع، تمنع الضغط الدولي للمساءلة عن الانتهاكات الجسيمة.

الضحية التي تستحوذ على المشهد

في المقابل، يُسلط الضوء بشكل كاسح على المحتجزين الإسرائيليين بصفة “الرهائن”. هذا التوصيف ينطبق قانونياً ودلالياً كون حماس أعلنت استخدام المحتجزين للمساومة على إطلاق سراح الفلسطينيين، واحتجاز الرهائن هو “جريمة حرب” محظورة بموجب القانون الإنساني الدولي.
لكن الخلل يكمن في “اللاتماثل في الإنسانية” الناتج عن التغطية الإعلامية، فخلال صفقات التبادل، ركزت التغطية الغربية بشكل ساحق على قصص الإسرائيليين المفرج عنهم، بينما حظي إطلاق سراح مئات الفلسطينيين، والكثير منهم محتجزون تعسفياً، باهتمام ضئيل، حتى وكالات الأنباء الدولية، مثل “رويترز”، تتبنى هذا التمييز بوضوح، حيث تشير في نفس الخبر إلى تبادل “الرهائن” الإسرائيليين بـ “الأسرى” الفلسطينيين.
هذا التأطير الإعلامي يعزز سردية “مكافحة الإرهاب”، ويبرر عنف الاحتلال الإسرائيلي باعتباره محاولة لإنقاذ ضحايا أبرياء، متجاهلاً السياق الأوسع المتمثل في الاحتلال والممارسات الاستعمارية الاستيطانية.

الكلمات كغطاء شرعي للظلم

إن التباين اللغوي بين “رهينة” و “أسير” هو نتاج تحيز أيديولوجي وسياسي عميق في التغطية الدولية، إنه يخدم هدفين رئيسيين:
الأول “نزع الإنسانية عن الفلسطينيين” بتصنيف المحتجزين الفلسطينيين كـ”أسرى أمنيين”، يُحرمون من صفة الضحية، ويُفترض أن احتجازهم شرعي وقانوني، مما يسهل على الرأي العام تقبل الإجراءات القاسية التي يتعرضون لها، بما في ذلك التعذيب.
الثاني “تبرير عنف الدولة” يضفي استخدام مصطلح “رهينة” شرعية أخلاقية مطلقة لأي تصعيد عسكري إسرائيلي بوصفه عملية “إنقاذ”، ويحول الصراع إلى قصة بين قوة دولة تدافع عن مدنييها من سطوة جماعة إرهابية كما يُروج.
إن المطالبة بالدقة الصحفية تقتضي الإشارة إلى المحتجزين الفلسطينيين، خاصة آلاف المعتقلين إدارياً والأطفال المعتَقلين، كمحتجزين تعسفياً أو ضحايا لسوء المعاملة الممنهج، وليس مجرد “أسرى”، وإعادة السياق الإنساني والقانوني الموثق للاحتجاز الفلسطيني هو الخطوة الأولى في تفكيك هذا الغطاء اللغوي الذي يغطي على الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews