أهداف روسية مخفية في سماء أوروبا: صراع فوق رؤوسنا

بقلم: علي زم – مراسلين
تشكل الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها روسيا بإرسال طائرات مسيرة إلى المجال الجوي لحلف الناتو وإرسال طائرات إلى المجال الجوي لإستونيا خطوة أخرى ضمن الحرب الهجينة الطويلة الأمد التي تشنها روسيا ضد أوروبا.
بعد فشل اجتماع ترامب وبوتين في ألاسكا، قررت روسيا مرة أخرى رفع مستوى التوتر مع أوروبا. وتعتمد موسكو على الاعتقاد بأن أوروبا، دون دعم الولايات المتحدة، غير قادرة على مواجهة أي تحركات عسكرية محتملة من روسيا، وحتى الحرب الهجينة، وأن ترامب لا يرغب في تورط الولايات المتحدة في أوروبا، مما يمنح روسيا القدرة على إجبار أوروبا على التراجع في الحرب في أوكرانيا، وإنهاء هذه الحرب لصالحها وتعزيز مكانتها في السياسة العالمية كقوة موازية للولايات المتحدة والصين.
لكن الرسالة الرئيسية التي استخلصتها روسيا من فشل لقاء ألاسكا كانت أن الولايات المتحدة وأوروبا لن يمنحا موسكو امتيازات خاصة أو يعترفا بها كقوة عالمية مساوية للولايات المتحدة والصين في ظل الظروف العادية ودون وجود ضغوط خاصة من جانب روسيا.
هذه المسألة مهمة للغاية بالنسبة لبوتين ونخبة السلطة في الكرملين، لأنها تمنحهم شرعية، أي أن الكرملين يمكنه تقديم بوتين على أنه القائد الذي أعاد الهيبة المفقودة لروسيا في العالم. ومع ذلك، فإن رسالة اجتماع ألاسكا والتطورات التي أعقبتها كانت عكس هذا الهدف، لذلك تواصل روسيا موقفها السابق، قائلة إن أوروبا والولايات المتحدة في حالة ضعف، وأن هناك فرصة تاريخية لموسكو لإضعاف النظام الليبرالي الدولي واستبداله بنظام آخر.
من زاوية أخرى، تسعى روسيا لتحقيق عدة أهداف من مواجهتها الحالية مع أوروبا وحلف الناتو. أولاً، ترغب في اختبار إرادة الناتو وحدوده في مواجهة الحرب الهجينة الروسية. تهتم موسكو بمعرفة النقطة التي سيظهر فيها الناتو رد فعل عسكري عملي على تحركات روسيا. الهدف التالي هو تقويض مصداقية الناتو بين شعوب أوروبا من جهة، وعلى المستوى العالمي تسعى روسيا لإظهار أن الناتو غير قادر على حماية شعوب أوروبا وأمنها أمام روسيا.
هدف آخر لروسيا يتمثل في إجبار الناتو على استخدام صواريخ باهظة الثمن لاعتراض طائرات مسيرة روسية منخفضة التكلفة، تتراوح قيمتها بين عشرة آلاف دولار للطائرة المسيرة مقابل 500 ألف إلى مليون دولار للصواريخ المستخدمة لاعتراضها، مما يقلل من مخزون الصواريخ ويكبد الناتو تكاليف باهظة. تكمن إحدى المشكلات الرئيسية لأوروبا في أن مخزونها الصاروخي محدود مقارنة بروسيا، وإذا استخدم هذا المخزون لمواجهة الطائرات المسيرة الروسية الرخيصة، ستزداد مشكلات الدفاع الصاروخي الأوروبية.
أخيراً، تسعى موسكو إلى خلق انقسامات داخلية في الناتو. إذ يحتاج الناتو لاتخاذ إجراء جماعي ضد روسيا إلى توافق آراء بين الأعضاء، في حين أن بعض الدول الأعضاء تعارض الرد القوي على روسيا. علاوة على ذلك، فإن تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الناتو ضد روسيا يبدو بعيد المنال حالياً، لأن تاريخ تفعيل المادة الخامسة في الناتو يقتصر على الهجمات التي وقعت بعد 11 سبتمبر فقط، والتي تم خلالها الدفاع الجماعي.
تواصل هذه الاستراتيجية الروسية جهودها السياسية والاقتصادية لإحداث انقسامات عبر دعم التيارات اليمينية المتطرفة مادياً وسياسياً. ففي فرنسا، تم منع ماري لوبوان، مرشحة اليمين المتطرف للانتخابات الرئاسية، من الترشح بسبب اتهامها بتلقي دعم مالي من روسيا.
وهناك تقارير عديدة تشير إلى أن روسيا تدعم اليمين المتطرف في أوروبا مالياً، كما تشمل تدخلاتها الانتخابات الأوروبية في فرنسا ومالدوفا ورومانيا، إلى درجة أن مالدوفا اضطرت لإلغاء الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة بسبب تدخلات روسيا. إضافة إلى ذلك، مدّت روسيا مواجهة الناتو لتشمل جورجيا والبلقان الغربي.
كما تسعى روسيا إلى تحدي البنية الأمنية الأوروبية في بحر البلطيق،والبحر الأسود وشرق أوروبا من خلال أساليب متعددة في المنطقة الرمادية. المشكلة الأوروبية تكمن في أن الأنظمة الديمقراطية الأوروبية تواجه صعوبات كبيرة عند الدخول في صراع شامل أمام الرأي العام.
تحاول روسيا استغلال نقاط ضعف أوروبا ضدها. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أن اللعب الروسي ضد الغرب لعبة خطيرة، وكما أظهرت تجربة الحرب في أوكرانيا، قد تكون حسابات الكرملين خاطئة. الأنظمة السياسية المغلقة، التي لا تتوافر فيها حرية تداول المعلومات، تواجه دائماً خطر التقييم الخاطئ للواقع.