من البن العربي إلى براءة اختراع: ضماد طبي سعودي يقاوم البكتيريا

عبدالله الحبابي – مراسلين
انطلقت فكرة الضمادة الطبية المحمّلة بمستخلص البن الخولاني من قناعة راسخة داخل منظومة جامعة الملك سعود، بقيادة البروفيسورة فاطمة العتيبي وفريقها البحثي، بأن التراث المحلي يمكن أن يكون مصدرًا ثريًا للحلول العلمية عندما يلتقي بالمنهج البحثي الصارم. وقد بنت الجامعة لنفسها بنيةً تحتيةً بحثيةً متطورةً، تشمل مختبراتٍ متقدمة، وقواعد بياناتٍ رقمية، وبرامج تمويلٍ تدريبية، ما وفّر للباحثين بيئةً بحثيةً محفزةً انعكست في تحويل فكرةٍ تقليديةٍ إلى منتجٍ طبيٍ واعد. ويعبّر المشروع بهذا المعنى عن نموذجٍ عمليٍّ للربط بين المعرفة والهوية الوطنية والاحتياجات الصحية للمجتمع، ويُبرز دور الجامعات كمحرّكٍ للتنمية والابتكار.
اتبعت الدراسة منهجيةً متعددة المراحل، استهلت بتصنيف عينات البن الخولاني وفق مراحل التحميص والخواص الكيميائية، ثم انتقلت إلى استخلاص وتنقية المركبات الفعالة باستخدام تقنيات قياسية قارنت بين المستخلصات المائية وطرائق الاستخلاص للوصول إلى التركيبة الأنسب.
تمت بعد ذلك تجربة حاملٍ ضماديٍّ يضمن إطلاقًا مستدامًا للمكونات الفعالة على سطح الجرح، تلتها اختباراتٌ مخبرية لرصد قدرة المستخلص على تثبيط نمو البكتيريا الشائعة والمقاومة، وشملت هذه الاختبارات سلالاتٍ معروفةً بمقاومتها للمضادات الحيوية مثل المكورات المقاومة للميثيسيلين.
إلى جانب ذلك، أُجريت اختباراتٌ أوليةٌ لسلامة التركيبات للتأكد من خلوها من السمية الموضعية وتأثيرها الإيجابي على مؤشرات التئام الأنسجة في النماذج المختبرية.
وقد أظهرت النتائج الأولى قدرةً ملحوظةً لمستخلص البن الخولاني على تثبيط النمو الميكروبي ومساعدة مؤشرات التئام الجروح، ما دفع الفريق إلى اتخاذ خطوةٍ متقدمةٍ بتسجيل براءة اختراعٍ دولية لدى الجهات المعنية.
تبدو المنفعة البشرية المتوقعة من هذا الابتكار متعددة الأبعاد؛ فعلى المستوى السريري، تُسهم الضمادة في تقليل الحمل الميكروبي الموضعي، وهو ما قد يُقلّص زمن التئام الجروح الحادة والمزمنة، ويحدّ من المضاعفات والالتهابات لدى المرضى الأكثر عرضة، مثل المصابين بداء السكري وجرحى الحوادث، مما يخفف الضغط عن المرافق الصحية ويقلل الحاجة إلى تدخلات علاجية متقدمة.
كما أن الاستخدام الموضعي لمركّبات ذات فعاليةٍ مضادةٍ للبكتيريا قد يردع الوصف المفرط للمضادات الحيوية الجهازية، وبالتالي، يسهم في خفض وتيرة تطور مقاومة المضادات الحيوية على المستوى المجتمعي.
اقتصاديًا، ثمّة إمكانية لتحقيق وفوراتٍ في نفقات الرعاية الصحية نتيجة تقصير مدد الإقامة وتقليل حالات إعادة الاستشفاء، إضافةً إلى فرصٍ صناعيةٍ محليةٍ إذا ما توفرت شراكات تصنيعٍ وإنتاج.
أما اجتماعيًا وثقافيًا، فيُقدّم المشروع نموذجًا لإبراز قيمة الموارد المحلية ويُعزّز ارتباط المجتمع بجهود البحث العلمي، ما قد يشجّع على دعمٍ أوسع للابتكار المحلي.
يتطلب تحويل هذا الابتكار إلى منتجٍ متاحٍ للمستخدمين مسارًا منظمًا يبدأ بتوسيع التقييم السريري وضمان سلامة وفعالية المنتج على نطاقٍ واسع، مرورًا بمرحلة التطوير الصناعي التي تشمل شراكاتٍ تجاريةٍ قادرةٍ على تحقيق متطلبات الجودة والامتثال التنظيمي، ثم إجراءات الترخيص والتسويق، والتوزيع داخل شبكات المستلزمات الطبية والمستشفيات.
المستفيدون المباشرون هم المرضى الذين يعانون جروحًا مزمنة أو حادة، وعلى وجه الخصوص مرضى السكري وجرحى الحوادث، بينما تشمل الفائدة الثانوية المراكز الصحية والمستشفيات وقطاع التصنيع الطبي والباحثين والطلاب المستفيدين من برامج التدريب المرتبطة بالمشروع.
ولضمان وصول المنتج إلى المستفيدين في المناطق النائية، يمكن تطوير نسخٍ مبسطةٍ ميسّرةٍ من الضمادة تدخل ضمن سلاسل الرعاية الأولية، ما يرسخ فائدة الابتكار على مستوى الخدمات الصحية القاعدية.
من منظورٍ عملي، يتطلّب التفعيل السريع والمتكامل للمشروع إطلاق دراساتٍ إكلينيكيةٍ إقليمية مع مستشفياتٍ شريكة لتوسيع قاعدة الأدلة، وتشكيل تحالفٍ استراتيجيٍّ مع جهة تصنيعٍ طبيةٍ ذات خبرةٍ لإدارة الانتقال من النماذج المخبرية إلى الإنتاج التجريبي، وتأمين تمويلٍ مرحليٍّ يدعم عمليات التوسع الإنتاجي.
كما ينبغي إعداد خطةٍ تنظيميةٍ وتسويقيةٍ تراعي متطلبات اعتماد الجهات الصحية المحلية، وإجراءات التصدير إن استدعى الأمر، وإطلاق حملاتٍ توعويةٍ للمجتمعات والمهنيين الصحيين تُوضح فوائد المنتج وآلية استخدامه. ولا يقلّ أهميةً عن ذلك تضمين عناصر نقل المعرفة وتدريب الكوادر الصحية والتقنية ضمن خارطة الطريق، لضمان استدامة الإنتاج وانتشاره داخل منظومة الخدمات الصحية.
يُعدّ هذا المشروع أيضًا فرصةً اقتصاديةً ومعرفيةً؛ فالانتقال إلى إنتاجٍ محليٍّ لضماداتٍ طبيةٍ مبتكرة يمكن أن يخلق فرص عملٍ في قطاع الصناعات الطبية، ويدعم مبادرات التصنيع الوطني، مع إمكانية فتح أسواقٍ تصديريةٍ في حال أثبت المنتج فعاليته وتوافرت تراخيص التصدير.
وفي الوقت ذاته، يشترط تحقيق هذه الرؤية التزامًا مؤسسيًا مستمرًا من الجامعة والقطاع الصناعي وجهات التمويل، إلى جانب إطارٍ تنظيميٍّ واضحٍ يُسهِّل إدخال المنتج إلى مرافق الرعاية الصحية.
تؤكد تجربة ضمادة البن الخولاني أن الابتكار الحقيقي لا يكتمل عند حدود المختبر، بل يحتاج إلى شراكاتٍ فاعلةٍ وسياساتٍ داعمةٍ تؤمّن الانتقال من براءة اختراعٍ إلى منتجٍ يخدم الجميع.
من جامعة الملك سعود انطلق هذا المشروع ليكون مثالًا على كيف يمكن لمنظومةٍ بحثيةٍ متكاملةٍ أن تحوّل مورثًا محليًا إلى حلٍّ طبيٍّ ذي أثرٍ إنسانيٍّ مباشر.
وقد حصلت الدكتورة العتيبي وفريقها البحثي على براءة اختراع مسجلة لدى مكتب براءات الاختراع الأمريكي (USPTO) بعنوان: “Clinical Dressing Loaded with Coffee Extract” (ضمادة طبية محمّلة بمستخلص البن الخولاني).
إن الاستثمار المنهجي في البحث العلمي، والالتزام بخارطة طريقٍ للتطوير والتصنيع والتسويق، والتكامل بين الجامعة والقطاعين الصحي والصناعي، كلها عناصر تضمن وصول هذا الابتكار إلى المريض بأمانٍ وكفاءة، وتعكس ملامح اقتصادٍ معرفيٍّ متينٍ يسهم في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030.