مقالات

مجازر السودان في الفاشر: مشهدٌ متجدد من جرائم الحرب

بقلم : عماد بالشيخ صحفي و محلل سياسي

مقدمة

تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، واحدةً من أكثر الصفحات سوادًا في الحرب السودانية الدائرة منذ عام 2023. فمع تصاعد الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحوّلت المدينة إلى بؤرةٍ مأساوية تتكثّف فيها صور الموت والحصار والتجويع، وسط عجزٍ دولي وصمتٍ إقليمي يكاد يبلغ حدّ التواطؤ.

تؤكد التقارير الحقوقية والإنسانية أن ما يجري في الفاشر يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من قتلٍ ممنهج، وقصفٍ عشوائي، واستخدامٍ للتجويع كسلاحٍ ضد المدنيين، وصولاً إلى مؤشراتٍ على عمليات تطهيرٍ عِرقي ذات طابع انتقامي.


تسلسل الأحداث

بدأت الفاشر في خريف 2025 تشهد موجاتٍ متصاعدة من العنف المسلّح بعد أن أحكمت قوات الدعم السريع حصارها على المدينة.
وفي منتصف سبتمبر، استهدفت طائراتٌ مسيّرة مسجدًا مكتظًّا بالمصلّين أثناء صلاة الجمعة، ما أسفر عن مقتل العشرات من المدنيين بينهم نساء وأطفال. تبع ذلك قصفٌ عشوائي لمراكز إيواء النازحين في حرم الجامعة ومناطق سكنية مكتظة.

مع نهاية أكتوبر، كانت المدينة قد غرقت في فوضى إنسانية غير مسبوقة؛ فالمستشفيات خرجت عن الخدمة، والإمدادات الغذائية قُطعت تمامًا، وبدأ المدنيون يواجهون خطر الموت جوعًا بعد أكثر من خمسمائة يوم من الحصار الكامل.


أنماط الانتهاكات

  1. القتل العشوائي والإعدامات الميدانية

وثّقت شهادات ميدانية وصور مسرّبة عمليات إعدامٍ ميدانية بحق مدنيين فارّين من الفاشر، إلى جانب إطلاق نارٍ عشوائي على تجمعاتٍ سكنية بلا أي تمييز.

  1. القصف الجوي والمسيّرات

الهجمات الجوية بطائراتٍ مسيّرة استهدفت مناطق مدنية بشكلٍ متكرر، بما في ذلك المساجد والمدارس وملاجئ النازحين، في انتهاكٍ صارخ لقوانين الحرب التي تحظر استهداف غير المقاتلين.

  1. التجويع كسلاح حرب

تعمدت القوات المسيطرة على المدينة منع دخول المساعدات الإنسانية وقطع الإمدادات الغذائية والطبية، ما أدّى إلى تفشي المجاعة والأوبئة، وتحول الجوع إلى وسيلة لإخضاع السكان المدنيين.


الكارثة الإنسانية

تصف المنظمات الإنسانية الوضع في الفاشر بأنه كارثة إنسانية مفتوحة:

أكثر من نصف مليون مدني يعيشون دون ماءٍ نظيف أو غذاءٍ كافٍ.

مئات الجثث تُركت في الشوارع دون دفنٍ لأسابيع.

عشرات آلاف النازحين لجؤوا إلى المناطق الريفية المحيطة وسط انعدام الأمن.

ترافق ذلك مع انهيارٍ كامل في النظام الصحي، وتدميرٍ واسع للبنية التحتية المدنية، ما جعل من الفاشر نموذجًا مأساويًا لحصار المدن في القرن الحادي والعشرين.


المسؤولية القانونية والسياسية

تندرج الأفعال الموثقة في الفاشر تحت تعريف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وفق اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي. وتشمل القتل المتعمد للمدنيين، القصف العشوائي، الإعدامات خارج القضاء، ومنع الإغاثة الإنسانية.

تتحمل أطراف النزاع المسؤولية المباشرة عن هذه الانتهاكات، غير أن الصمت الدولي وتباطؤ الاستجابة الأممية يعمّقان الشعور بالإفلات من العقاب، ويمنحان المجرمين شعورًا بالحصانة.


المطلوب الآن

  1. فتح ممرات إنسانية آمنة لإدخال المساعدات العاجلة إلى المدنيين في الفاشر دون أي قيود سياسية أو عسكرية.
  2. إيفاد لجنة دولية مستقلة للتحقيق في الجرائم المرتكبة وجمع الأدلة لتقديم المسؤولين إلى العدالة.
  3. فرض عقوباتٍ دولية مستهدِفة على القادة والكيانات المتورطة في الانتهاكات الجسيمة.
  4. تفعيل الدبلوماسية الإقليمية لإيجاد حلٍّ سياسي شامل ينهي الحرب ويعيد للسودان وحدته واستقراره.

خاتمة

ما يحدث اليوم في الفاشر ليس حادثًا عابرًا في تاريخ السودان، بل اختبارٌ قاسٍ لإنسانيتنا جميعًا. إنها جريمة موثّقة بالصوت والصورة، تُعيد إلى الأذهان أسوأ كوارث القرن الإفريقي.
وإذا استمر العالم في صمته، فستبقى الفاشر شاهدًا على زمنٍ تهاوت فيه القيم، وسقطت فيه العدالة، وتُرك الإنسانُ السوداني وحيدًا أمام آلة حربٍ لا تعرف رحمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews