
بقلم: ريتا الأبيض
صحفية وأكاديمية تهتم بالإعلام والعلاقات الدولية
كانت كرة القدم يومًا مساحة يتساوى فيها الجميع. في الأحياء الفقيرة كما في المدن الفخمة، كانت تبعث اللذة ذاتها وتشعل النار ذاتها في القلوب. لم تكن تُقاس بالأرقام، ولم تكن تُدار من وراء الشاشات، بل كانت تُلعب بقلوب مفتوحة وأحذية ممزقة، وبحلمٍ لا يمكن للمال أن يشتريه.
لكن المشهد تغيّر ببطء. اللعبة التي وُلدت في الشوارع تحوّلت إلى صناعة ضخمة تحكمها العقود والميزانيات التي تفوق ميزانيات بعض الدول. ومع هذا التحول العميق، يطرح سؤال نفسه بقوة:
هل ما زالت كرة القدم لعبة الشعب؟ أم أصبحت سلعة فاخرة تُباع وتُشترى عالميًا؟
عندما يتولى المال القيادة
لم يعد الفوز في الملعب وحده طريق المجد. الأرقام اليوم — لا الأقدام — هي التي تصنع العناوين.
صفقات تفوق المائة مليون، وأجور أسبوعية كانت يومًا كفيلة ببناء نادٍ كامل.
الأندية لم تعد “عائلية”، بل شركات تبحث عن الأرباح قبل البطولات، تُدار بعقلية السوق لا بروح الشغف.
قد يبدو اللاعبون جشعين، لكن العالم تغيّر، والاحتراف لم يعد خيارًا بل شرطًا.
ومع ذلك، فإن المال الذي رفع مستوى اللعبة، سلب منها جزءًا من روحها الأولى.
المشجعون… من القلب إلى القمة
الضحايا الحقيقيون لهذا التحول هم المشجعون.
ارتفعت أسعار التذاكر، وأصبحت متابعة المباريات رفاهية لا يقدر عليها الجميع.
الجماهير التي كانت تصنع المشهد من قلب المدرجات، أصبحت تتابع عن بُعد، كغرباء عن اللعبة التي كانوا أبطالها الحقيقيين.
تحوّلت المدرجات من ساحاتٍ للأهازيج إلى مسارح صامتة تسيطر عليها الكاميرات والإعلانات.
ومع ذلك، يبقى هناك ما لا يُشترى: الانتماء الحقيقي.
ذلك المشجع الذي يهتف رغم الهزيمة، ويعود بشغفٍ لا ينطفئ — هو ما يُذكّرنا بأن الروح لم تمت بعد.
الإعلام الرياضي… بين الحياد والتمويل
حتى الإعلام لم يسلم من سطوة المال.
بعد أن كان لسان الجماهير، أصبح جزءًا من المنظومة التجارية.
التحليل الفني تحوّل إلى ترويجٍ للرعاة، والنقد صار يُوزن بميزان العلاقات أكثر من ميزان المهنية.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي في التغطيات، أصبحت الأخبار أسرع وأكثر دقة، لكنها فقدت دفء اللغة الإنسانية.
فالآلة قد تحصي عدد التمريرات، لكنها لا تشعر برعشة الجماهير لحظة تسجيل الهدف.
ومع ذلك، ما زال هناك صحفيون ومحللون يكتبون لأنهم يحبون اللعبة، لا لأنهم موظفون فيها — وهؤلاء وحدهم من يعيدون التوازن للمشهد.
بين الاحتراف والروح
المشكلة ليست في الاحتراف، بل في غياب الروح.
كرة القدم تحتاج إلى التنظيم، نعم، لكنها تحتاج أكثر إلى الحلم.
حين يُحسب كل شيء ويُضمن كل شيء، تفقد اللعبة عنصرها الأجمل: المفاجأة الإنسانية.
كرة القدم ليست جداول ونتائج فقط؛ إنها قصص تُروى على العشب، عن الأمل والإصرار والانتصار والخيبة.
ولهذا ستبقى دائمًا فنًّا إنسانيًا قبل أن تكون مهنةً احترافية.
المدرج… آخر نبضٍ حيّ
رغم كل التغيرات، يبقى المدرج آخر مساحةٍ حقيقية للحياة.
هناك فقط ترى الإنسان في أصدق حالاته: صرخة فرح، دمعة خيبة، تصفيق لفريق خاسر لأنه قاتل بشرف.
المدرج لا يعرف لغة المال ولا منطق السوق، بل لغة واحدة هي العاطفة.
ما دام هناك جمهور يهتف من القلب، ستبقى كرة القدم حيّة — مهما ارتفعت أصوات المال والإعلانات.
الخاتمة: القلب قبل الأرقام
يمكن للشركات أن تشتري كل ما حول اللعبة، لكنها لن تشتري روحها.
يمكن شراء اللاعب، لا حب الجماهير له.
يمكن بناء ملعب فخم، لا صدق المدرجات.
ستبقى كرة القدم، رغم كل التغيرات، لعبة الناس أولًا، وذاكرتهم الجماعية الأجمل — تذكّرنا دائمًا أن القلب أصدق من الإحصاءات، وأن الشغف، لا المال، هو ما يجعلها اللعبة الأعظم.



