مقالات

تصريحات بلفورية ووعود بدولة شعب الله المختار

كتبه : مهند سامر باحث ومستشار إعلامي

كيف أخرج الأب الروحي للدولة اليهودية مشروعه إلى العلن؟

منذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأت القوى الاستعمارية تتقاطع عند فكرة إنشاء كيان لليهود في قلب المشرق العربي، وكان ثيودور هرتزل هو من حوّل الحلم الغامض إلى مشروع سياسي واضح المعالم. فهم ثيودور، مؤسس الحركة الصهيونية، منذ بداياته أن مشروع إقامة دولة يهودية لن يرى النور دون دعم القوى الكبرى. لذلك بدأ رحلته بالاتجاه إلى إسطنبول، حيث كانت فلسطين تخضع للحكم العثماني المثقل بالديون.

فشل في إسطنبول

حاول هرتزل استغلال وطأة الديون تلك، مقدمًا عرضًا مغريًا للسلطان عبد الحميد الثاني يقضي بتسديد ديون الدولة مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين. استمرت محاولاته بين عامي 1896 و1901، لكنها باءت بالفشل، إذ رفض السلطان عبد الحميد العرض رفضًا قاطعًا، وأصدر مراسيم مشددة لمنع تسلل اليهود إلى فلسطين، مؤكدًا أن هذه الأرض وقفٌ إسلامي لا يُفرّط فيه. 

رهان على القيصر

خلال ادراكه فشل مشروعه مع العثمانيين، اتجه هرتزل نحو القوى الأوروبية الأخرى. ففي العام 1898، سعى لاستمالة القيصر الألماني فيلهلم الثاني خلال زيارته إلى القدس، محاولًا إقناعه بأن إقامة وطن لليهود في فلسطين ستحقق لألمانيا مكاسب مزدوجة:

أولًا، التخلص من اليهود غير المرغوب فيهم في الداخل الألماني،

وثانيًا، تعزيز نفوذ برلين في المشرق عبر كيان تابع لها.

كان هرتزل يكرر أمام الأوروبيين فكرته الجوهرية بأن اليهود سيقيمون في فلسطين التي اعتبرها قطعة من أوروبا المتحضّرة في وجه آسيا المتخلّفة، وأنهم سيكونون قاعدة متقدمة للحضارة الغربية في مواجهة البربرية الشرقية على حدّ تعبيره.

الوعد البريطاني

في الوقت ذاته، عرض هرتزل المشروع نفسه على البريطانيين، الذين بدؤوا يرون في الصهيونية وسيلة لخدمة مصالحهم في الشرق الأوسط. تطورت العلاقات لاحقًا عبر لقاءات بين حاييم وايزمان وآرثر بلفور منذ عام 1904، حيث وعد بلفور وايزمان قائلاً: “حالما تتوقف الحرب، يمكنك أن تحصل على أورشليمك.”

وبعد سنوات، ومع احتلال الجيش البريطاني للقدس بقيادة الجنرال اللنبي في 1917، أصدر بلفور تصريحه الشهير الذي عُرف بـ “وعد بلفور”، معلنًا دعم بريطانيا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. قال اللنبي حين دخل القدس: “الآن انتهت الحروب الصليبية، وأصبحت القدس لنا أبدية.”

وضعت بعدها بريطانيا فلسطين تحت نظام الانتداب، وعيّنت هربرت صموئيل، وهو يهودي صهيوني متشدد، أول مندوب سامٍ لها في البلاد، ليتولى تنفيذ المشروع على الأرض.

التعاطف الصيني

لم يقتصر الدعم على الغرب وحده؛ ففي 1920 بعث الزعيم الصيني سون يات-سن رسالة إلى إيلي عزرا، عبّر فيها عن تأييده للحركة الصهيونية، معتبرًا أن معاناة اليهود في الشتات تشبه معاناة الشعوب المستعمَرة والمقهورة مثل الشعب الصيني، وأن الصهيونية تمثل حركة تحرر قومية شبيهة بالنضال الصيني من أجل الاستقلال.

من التصريحات إلى الخرائط

تكاثرت الوعود البلفورية، وتحولت من تصريحاتٍ إلى خرائط، ومن أفكارٍ إلى واقعٍ غيّر وجه التاريخ، فاجتمع الغرب على فكرة زرع جسمٍ دخيل في قلب البيئة العربية والإسلامية. تتابعت بعد ذلك الاعترافات، فكان الاعتراف الأمريكي بإسرائيل بعد إحدى عشرة دقيقة فقط من النكبة، ثم الاعتراف السوفييتي بعد ثلاثة أيام، تلاه الاعتراف التركي الأتاتوركي بعد أقل من عام.

وبجرة قلم من صاحب العيون الزرقاء بلفور في لندن، وبصمتٍ متواطئ من عواصم أخرى، تغيّر وجه التاريخ: تحوّل أصحاب الأرض العرب الفلسطينيون إلى أقليات في وطنهم، فيما صار الوافدون الجدد يُقدَّمون للعالم على أنهم أصحاب الأرض والتاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews