سياسة

من يجب أن يتصالح مع التاريخ.. الجزائر أم فرنسا؟

مولود سعدالله – مراسلين

في ذكرى نوفمبر تعود ذكرى الفخر والعز للجزائريين وتعود معها رمزية الثورة التي كسرت قيود الاستعمار الفرنسي بعد 132 سنة من الاحتلال المظلم ، لكن في الوقت نفسه لا تأتي هذه الذكرى منفصلة عن الألم إذ تصحو معها الذاكرة الدامية، وتعود صور المجازر والدماء التي غمرت أرض الجزائر، من سطيف وقالمة وخراطة عام 1945 إلى القرى المدمرة والمجازر المروعة سنوات الثورة وقبلها ، فعدد الشهداء الذين ارتقوا طيلة فترة الاحتلال 132 سنة و ليس السنوات السبع سنوات الثورة فقط ، يقدّر بأكثر من خمسة ملايين ونصف المليون جزائري حسب تقديرات المؤرخين الوطنيين.

وهنا يطرح السؤال
من يجب أن يتصالح مع التاريخ؟ وهل يمكن لتلك الجرائم أن تطوى بمرور الزمن؟

جرائم فرنسا في الجزائر لم تكن مجرد ” أخطاء تاريخية ” بل نظاما ممنهجا من القتل والإبادة والطمس الثقافي ، فمجازر 8 ماي 1945 التي حصدت أرواح 45 ألف جزائري في أيام فقط ، لم تكن سوى مقدمة لآلة دموية استمرت حتى انتهاء الثورة.
فرنسا لم تكتف بالقتل بل جربت في الجزائر أساليب ” الاختفاء القسري” والتعذيب الكهربائي والنابالم وحرق القرى، وحتى بعد رحيلها احتفظت بعظام وجماجم المقاومين الجزائريين في متاحفها وكأنها تحتفي بالفظاعة كإنجاز حضاري.

الرئيس الجزائري قال في إحدى خطبه

” الذاكرة ليست ورقة سياسية، إنها جوهر السيادة ومن دونها لا كرامة لأمة”

أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقد اعترف عام 2017 بأن الاستعمار كان “جريمة ضد الإنسانية” لكنه عاد في 2021 ليتحدث عن ” ضرورة تجاوز الماضي لبناء المستقبل” من دون أن يقدم اعتذارا رسميا.

رؤيتان متناقضتان

من زاوية الجزائر فالتاريخ ليس عبئا بل هو هوية ، الجزائر ترى أن المصالحة الحقيقية تبدأ من اعتراف فرنسا الكامل بجرائمها، وفتح الأرشيف الاستعماري وإعادة الجماجم والأرشيف والاعتذار الرسمي باسم الدولة الفرنسية، لا باسم رئيس يغيره الزمن .

أما فرنسا فهي تحاول الفصل بين السياسة والذاكرة ، ترى أن التركيز على الماضي يهدد العلاقات الاقتصادية والأمنية وتفضل الحديث عن ” شراكة المستقبل ” لكنها في العمق تخشى تداعيات الاعتراف القانوني الذي قد يفتح الباب أمام مطالب بالتعويض، ويحرك قوى داخلية فرنسية ترفض الاعتذار عن “مجدها الاستعماري” .

هذا العام لم تكن سنة 2025 سنة هادئة بين باريس والجزائر
في إبريل الماضي ، طردت الجزائر 12 موظفا دبلوماسيا فرنسيا بسبب ما وصفته بـ«التدخلات غير المقبولة» وأيضا ردا على ممارسات الحكومة الفرنسية ، لترد باريس سريعا بطرد عدد من الدبلوماسيين الجزائريين ، كما وصفت وكالة AP العلاقات بأنها «تدهورت إلى أدنى مستوياتها منذ الاستقلال».
أيضا صوت البرلمان الفرنسي في فبراير على إلغاء اتفاقية 1968 الخاصة بالهجرة، وتزامن ذلك مع خلافات حادة حول التعاون الأمني وملف التأشيرات .

هذه الأحداث كشفت أن الجرح التاريخي لا يزال مفتوحا ، وأن الحديث عن ” تجاوز الماضي ” لا يمكن أن ينجح بينما تمارس باريس أسلوبا استعلائيا يذكر بجذور الاستعمار ذاتها .

رغم كل ذلك لا يمكن إنكار أن العلاقات الجزائرية الفرنسية ضرورة استراتيجية فأكثر من 5 ملايين جزائري يعيشون في فرنسا.
فرنسا ايضا من أكبر الشركاء التجاريين للجزائر، خصوصا في مجالات الطاقة والاستثمار.
التنسيق الأمني في الساحل الإفريقي والبحر المتوسط يفرض واقعا من التواصل مهما توترت العلاقات.

لكن الجزائر تقول بوضوح:
” العلاقات لا تبنى على مصالح ، بل على احترام متبادل وذاكرة نظيفة “

فرنسا من جهتها تريد شراكة ” منفصلة عن الماضي ” ، لكن التاريخ لا يفصل بالقرارات الدبلوماسية بل يعادله الاعتراف.

هل تلك الجرائم تتجاوز أو تموت بالتقادم ؟!

قد يظن البعض أن مرور العقود كفيل بمحو آثار الجرائم لكن الذاكرة الجزائرية ما زالت تنبض بالدماء التي لم تجف ، فمن صرخات سطيف إلى زنزانات الحراش ، ومن الجبال إلى السهول لا يزال الشاهد والموروث يذكران بأن النسيان خيانة للحق ،
القانون الدولي ذاته لا يسقط جرائم الحرب بالتقادم فكيف بجرائم الاستعمار التي امتدت لأكثر من قرن؟

فكما قال أحد أساتذة التاريخ في الجزائر ان فرنسا إن أرادت فعلا أن ” تتجاوز الماضي ” فعليها أولا أن تعترف به ، أما الجزائر فقد تجاوزت بالنصر والسيادة لكنها ترفض أن تسوي على حساب الذاكرة ، فالتاريخ ليس عبئا بل درعا يحمي الهوية من الذوبان، والمصالحة لا تفرض بالضغوط بل تبنى على صدق الاعتراف.

في ذكرى نوفمبر المجيدة حين تتلألأ أرواح الشهداء في سماء الجزائر، يبقى السؤال قائما
من الذي يجب أن يتصالح مع التاريخ؟
الجزائر التي دفعت الدم لتتحرر أم فرنسا التي ما زالت تتلكأ في قول الحقيقة؟
هذا التعقيد في التاريخ المشترك هو ما ينعكس عن العلاقات بين البلدين ، حتى وإن طال الزمن .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews