مواقف الشعوب مقابل قرارات الأنظمة: الفجوة التي تعيد تشكيل الوعي العربي

بقلم : آلاء أسيل بو الأنوار
مدخل: جدلية الحاكم والمحكوم في زمن التحولات الكبرى
لم تعد العلاقة بين الشعوب العربية وأنظمتها السياسية مسألة تقليدية يمكن اختزالها في ثنائية “الطاعة والمعارضة”. فالعالم العربي يعيش اليوم مرحلة إعادة تشكّل عميقة، تتقاطع فيها التحولات الجيوسياسية الدولية مع تحولات الوعي الجمعي المحلي.
وبينما تتجه الأنظمة نحو تبني سياسات خارجية وداخلية تحكمها الحسابات الواقعية وموازين القوى، تتخذ الشعوب مواقفها من منطلق الضمير القومي والديني والإنساني، ما يخلق فجوة متزايدة بين منطق السلطة ومنطق المجتمع.
حرب غزة (2024–2025): مرآة الفجوة المتسعة
مثّلت الحرب الأخيرة على غزة لحظة كاشفة لما يمكن وصفه بـ”انفصال الوجدان الشعبي عن القرار الرسمي” في عدد من الدول العربية.
في الوقت الذي اكتفت فيه حكومات كثيرة بمواقف دبلوماسية رمادية، خرجت الشعوب في مظاهرات مليونية، معلنة رفضها لما اعتبرته تواطؤًا أو صمتًا غير مبرر أمام المأساة الإنسانية في فلسطين.
لقد وجدت الأنظمة نفسها بين مطرقة الالتزامات الدولية وسندان الرأي العام الداخلي، في مشهد يعكس هشاشة العلاقة بين “المصالح العليا للدولة” كما يراها الحاكم، و“الواجب الأخلاقي والتاريخي” كما يشعر به المواطن العربي.
هذه الفجوة لم تنشأ اليوم، لكنها اتسعت بفعل وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت المواطن العربي أكثر وعيًا بالسياسة الخارجية، وأكثر قدرة على المقارنة بين المواقف، وأكثر جرأة في التعبير عن رأيه.
لقد تغيّر المشهد؛ لم تعد الشعوب متلقية للسياسة، بل أصبحت طرفًا ناقدًا ومشاركًا في تشكيل الرأي العام العالمي حول قضايا أمتها.
الواقعية السياسية في مواجهة العاطفة الجمعية
تتحرك الأنظمة، في معظم الأحيان، انطلاقًا من الواقعية السياسية(Realpolitik)، التي تجعل المصلحة الوطنية مرادفًا للحذر والبراغماتية.
أما الشعوب، فهي تحكمها الشرعية القيمية، التي تجعلها ترفض أي تناقض بين المبدأ والسياسة.
وهنا تتجلى المفارقة: الأنظمة تبحث عن “الاستقرار”، بينما الشعوب تبحث عن “العدالة”.
السلطة ترى في الواقعية ضمانًا للبقاء، بينما يرى الشارع فيها تبريرًا للتنازل.
وما بين “الحذر الرسمي” و“الانفعال الشعبي” تضيع أحيانًا فرص بناء موقف عربي موحد قادر على التأثير في الميدان الدولي.
الشارع الجديد: من الساحات إلى المنصات
لم تعد الجماهير تنتظر الإعلام الرسمي أو الأحزاب لتعبّر عن رأيها.
فقد تحوّلت المنصات الرقمية إلى “برلمان مفتوح” تُصاغ فيه مواقف الشعوب وتُقاس فيه حرارة الرأي العام.
من خلال “هاشتاغ” واحد، تستطيع حملة شعبية أن تُحرج حكومة، أو تُغيّر اتجاه شركة، أو تُثير نقاشًا في البرلمان الأوروبي.
لقد صار الرأي العام الإلكتروني قوة ناعمة جديدة في المنطقة، تفرض على الأنظمة إعادة التفكير في آليات التواصل والشرعية.
هذا التحول الرقمي جعل المسافة بين الحدث وردّ الفعل الشعبي شبه معدومة، وأفقد الأنظمة القدرة على احتكار الخطاب السياسي كما كان الأمر في العقود الماضية.
من شرعية التاريخ إلى شرعية الأداء
في العالم العربي، كانت شرعية الأنظمة تستند تاريخيًا إلى الثورة، أو النضال ضد الاستعمار، أو شرعية المؤسسات الدينية والعائلية.
لكن هذه الشرعيات التقليدية بدأت تفقد بريقها أمام جيل جديد يقيس شرعية الحاكم بقدرته على الإنجاز، الشفافية، واحترام إرادة المواطن.
لقد أصبح المواطن العربي أكثر تطلعًا إلى نموذج حكم تشاركي، يوازن بين الأمن والحرية، وبين المصلحة الوطنية والكرامة الإنسانية.
وهو ما يعيد طرح سؤال جوهري:
هل تستطيع الأنظمة العربية الانتقال من “حكم الناس باسمهم” إلى “حكم الناس بمشاركتهم”؟
نماذج من الواقع العربي
في تونس، ما زالت التجاذبات السياسية بعد 25 جويلية تعكس صراعًا بين مطلب الاستقرار ومطلب المشاركة الشعبية.
في المغرب، يبرز التناقض بين انفتاح اقتصادي متزايد واحتقان اجتماعي يعكس ضعف الثقة في المؤسسات التمثيلية.
في الجزائر، برزت تجربة الحراك الشعبي كمؤشر على نضج الوعي السياسي الجماعي.
في دول الخليج، تتجه الحكومات نحو تحديث اقتصادي سريع يقابله وعي مجتمعي متنامٍ يطالب بمساحات أوسع من المشاركة في القرار.
كل هذه الحالات تُظهر أن الشعوب لم تعد تقبل دور “المتفرج”، بل أصبحت تطالب بأن تكون فاعلًا في تحديد الاتجاه الوطني.
نحو مصالحة بين السلطة والضمير الشعبي
ليس المطلوب أن تتخلى الأنظمة عن الواقعية، ولا أن تندفع الشعوب وراء العاطفة.
المطلوب هو بناء توازن جديد، قوامه الاعتراف بأن الشرعية الحديثة لا تُستمد من السيطرة بل من الثقة، ولا تُبنى بالخطاب بل بالمشاركة.
يمكن للدول العربية أن تحقق هذا التوازن عبر:
1 . فتح قنوات حقيقية للتواصل مع الرأي العام، لا عبر الإعلام الرسمي بل عبر الحوار الصريح.
2 . إشراك المجتمع المدني والشباب في صياغة السياسات العامة.
3 . تطوير الدبلوماسية الشعبية لتكمل الدبلوماسية الرسمية.
4 . التحرر من الوصاية الأيديولوجية التي ترى في الشعب تهديدًا لا شريكًا.
الشعوب لا تعادي أوطانها
إن التباين بين الشعوب والأنظمة لا يعني صراعًا وجوديًا، بل هو انعكاس لحيوية المجتمع وتطوره.
فالشعوب، في جوهرها، لا تعارض أوطانها، بل تسعى لحمايتها من الخطأ أو الانحراف.
أما الأنظمة، فكلما اقتربت من نبض الناس، ازدادت شرعيتها ومناعتها.
لقد أثبتت السنوات الأخيرة أن الوعي الشعبي العربي لم يمت، بل ينهض من كل أزمة أكثر عقلانية ومسؤولية.
ربما آن الأوان لأن تُدرك الأنظمة أن المستقبل لا يُصنع بالسيطرة، بل بالشراكة، وأن الشعوب ليست خصمًا، بل طاقة وطنية كامنة يمكن أن تكون الحليف الأقوى في مواجهة تحديات الداخل وتقلبات الخارج.



