مقالات

عندما يصبح المفتاح قصة وطن

..
بقلم: أحمد يوسف ضميري

في إحدى الليالي حدّثتني جدّتي أم يوسف (خديجة حمدان)، البالغة من العمر تسعين عامًا، عن مفتاح بيتها في مخيم طولكرم الذي هدمه الاحتلال هذا العام. أخبرتني أنها لم تعد بحاجة إلى المفتاح، وأنها حاولت التخلص منه أكثر من مرة، لكنها كانت تتراجع في كل مرة لأنه يحمل ذكرى عزيزة لبيتٍ عاشت فيه ما يقارب ثمانية وستين عامًا منذ زواجها.
فقلت لها: يا ستي أعطيني المفتاح، بلاش ترميه.
فسألتني: شو بدك فيه؟
فأجبتها: خايف بكره ترميه، وأنا معني فيه، ومستعد أشتريه منك بخمسين شيكل (15.50 دولار أمريكي). علمًا أن قيمته لا تتجاوز دولارًا واحدًا.
مدّت يدها إلى جزدانها وأعطتني المفتاح، ثم قالت: “إذا الجمل راح بدنا نتأسف على الرحل”.
احتفظتُ بالمفتاح؛ فهو يروي قصة خيمة نصبها حسن الضميري (جدّ أبي) بعد نزوحه مع عائلته من قرية الضمايرة قضاء حيفا، قبل أن يهدم الاحتلال منزلهم هناك. ويروي أيضًا قصة البيت الذي بنته وكالة الغوث من الزينكو بعد أن طال اللجوء، ثم اتسع البيت حين أخذ جدي منزل جيرانه الذين لجؤوا إلى الأردن بسبب حرب عام 1967 ولم يُسمح لهم بالعودة، فسكنوا في مخيم الحصن. فضمه إلى بيته بإذن من وكالة الغوث وأعاد بناء معظمه في التسعينيات بعد أن أصبح غير صالح للسكن.
يحتضن هذا البيت قصصاً كثيرةً من حياة جدي أحمد، وزوجته، وأمه، وأخواته، وأبناؤه الذين ترعرعوا وكبروا بين جدرانه. كما يحتضن هذا البيت قصص اجتياحات الجيش الإسرائيلي للمخيم والمنزل وحبسنا في إحدى غرفه، وتفتيشه والإقامة فيه بالقوة لأيام. وكما أن الذكريات القاسية موجودة، ففيه أيضاً ذكريات جميلة جمعتني بأبناء عمومتي.
ورغم أنه لا يوجد بين أبي وأعمامي وأبنائهم أسير أو شهيد أو صاحب نشاط مقاوم -حتى اليوم الذي نشر فيه المقال-، ولم يختبئ في البيت مقاتل يومًا، ومع ذلك هدمه الاحتلال بحجة فتح طرقات داخل المخيم. مع أننا لم نتلقَ أي إشعار مسبق بالهدم، ولم نُستشر فيه، ولم نحصل على تعويض أو مسكن بديل.
تفاجأنا بالهدم، بل بهدم الحارة بأكملها وحارات أخرى، ليتّضح لاحقًا أن الهدف هو طمس معالم المخيم الذي ظل شاهدًا حيًا على نكبته وجرائمه منذ عام 1948م.
قالت لي جدتي: أبصر، ضايل محطة ثانية؟
وتقصد بذلك أنها هُجّرت من قريتها الأصلية (قانون) قضاء طولكرم، فهدم الصهاينة بيتها في عام 1948، ولجأت مع عائلتها إلى مخيم طولكرم، ثم عاد الصهاينة بهدم بيتها ثانية في 10/6/2025م، ليجعلها مرة أخرى نازحة في بيت ابنها في ضاحية ذنابة بمدينة طولكرم. ولا تدري هل سينتهي لجوؤها هنا أم أن هناك لجوءًا آخر بانتظارها.
ومهما حاول الاحتلال تهجيرنا وطمس الشواهد الدالة على جرائمه، سيبقى هذا “المفتاح” شاهداً على بيوت هدمت ظلماً وطغيانا، ودليلاً وراوياً على جريمته المستمرة في طرد كل فلسطيني من أرضه منذ عام 1948م إلى يومنا هذا. ومهما تطورت المفاتيح والأقفال لكنها تبقى الدليل المادي الموروث على قصص الإجرام الصهيوني، راوية قصة وطن مسلوب، وشعب مقموع. فكل مفتاح وراءه قصة كقصتي تروي أياماً عيشت، وأفراحاً صارت ذكريات، واحتلالاً لا يتوقف عن ظلمه حتى يقتلع بالكلية.

Amjad Abuarafeh

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews