مقالات

​ إعلان “السلام” الأمريكي.. غطاء لاستمرار الحرب والوصاية

بقلم : صورية بوعامر

في خضم أتون الحرب المدمرة التي تلتهم غزة، تتكشف فصول خطة “سلام” أمريكية مثيرة للجدل، ترفع شعار إنهاء الصراع بينما يبدو في جوهرها أنها مصممة لترسيخ الهيمنة وتأبيد حالة النزاع، بدلا من إرساء السلام الحقيقي والعادل.

إن القرار الأمريكي، الذي يقدم على أنه جهد لنشر الاستقرار، يواجه اليوم اتهامات واسعة بأنه مجرد غطاء دبلوماسي لاستمرار العمليات العسكرية وتجريد الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية، ما يجعله نقيضا لما يدّعيه.

إن اللعبة المزدوجة التي تمارسها واشنطن، التي تستخدم حق النقض (الفيتو) لتعطيل قرارات مجلس الأمن الداعية لوقف فوري لإطلاق النار، تعرّي ادعاءها بالحياد أو السعي الحقيقي للسلام. فعندما تجهض القوة الأعظم الإرادة الدولية بوقف المذبحة، فإنها لا تقوّض مصداقية الأمم المتحدة فحسب، بل تعلن صراحة أن “السلام” الذي تسعى إليه هو سلام يخدم أجندة طرف واحد على حساب الدم الفلسطيني والحق في تقرير المصير.

إن معارضة مجلس الأمن الدولي بهذا الشكل الممنهج لا يمكن أن تُفهم إلا كضوء أخضر لمواصلة آلة الحرب، مع توفير شبكة أمان سياسية ودبلوماسية للطرف المهاجم. لكن النقطة الأكثر دلالة وكشفاً لحقيقة هذه الخطة هي “ألعوبة نزع السلاح” المزعومة لقطاع غزة.

يتم الترويج لهذه الخطوة على أنها شرط أساسي لـ”اليوم التالي” للحرب، كضمان لعدم تجدد القتال. لكن القراءة المتعمقة تظهر أنها ليست سوى مقدمة لتوقيع صك الوصاية الأمريكية على القطاع.

فبينما يُطالب الفلسطينيون بالتخلي عن آخر أوراق قوتهم للدفاع عن النفس، يتم تجاهل الترسانة العسكرية الهائلة للطرف الآخر، ما يخلق حالة غير متكافئة من القوة لا يمكن أن تؤدي إلى أي سلام مستدام.

إن نزع السلاح بهذا الشكل يحوّل القطاع إلى كيان غير قادر على الصمود، ويهدف بشكل واضح إلى فرض ترتيبات أمنية طويلة الأجل تحت إشراف أمريكي – أو ما يمكن تسميته بـ”الاحتلال الناعم” – حيث تبقى واشنطن هي الضامن والمهندس الأمني، مما يضمن استمرار هيمنتها على المشهد الإقليمي.

إن خطة السلام الأمريكية هذه، في حقيقتها، هي خطة لـمواصلة الحرب بأدوات أخرى. فهي لا تهدف إلى معالجة جذور الصراع المتمثلة في الاحتلال والحصار، بل تسعى لإعادة تشكيل الواقع الجيوسياسي لغزة وفق رؤية تخدم مصالح طرف واحد، وتضمن تفوقه المطلق. فالسلام الحقيقي لا يُفرض بتهديد السلاح وحرمان الطرف المظلوم من وسائل دفاعه، ولا يمرر عبر استخدام “الفيتو” لقتل الأمل في إنهاء العدوان.

السلام الحقيقي يبدأ بالعدالة، بوقف إطلاق النار غير المشروط، ورفع الحصار، والاعتراف الكامل بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة ذات السيادة. وما دامت واشنطن تخلط بين “السلام” وبين “الوصاية الأمنية” و”مواصلة الحرب”، ستبقى أي مبادرة منها مجرد حبر على ورق، تزيد من عمق المأساة بدلا من إنهائها.

​قراءة مُفصَّلة: فك شيفرة التلاعب الأمريكي وحقيقة مشروع الوصاية في غزة

إن المشروع الأمريكي للسلام في غزة، والمُسوَّق تحت دعاوى الاستقرار واليوم التالي للحرب، هو في حقيقة الأمر عملية هندسة جيوسياسية تهدف إلى تحقيق أهداف استراتيجية عميقة تتعارض جوهريا مع مبدأ السلام العادل أو حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.

التلاعب هنا لا يكمن في إنكار الحرب، بل في تجميل نتائجها وشرعنة وضع جديد يرسخ الهيمنة. أول خيوط هذا التلاعب تُنسج عبر “شروط نزع السلاح”، التي لا تعد هدفا أمنيا بقدر ما هي أداة سياسية لتجريد المقاومة من آخر ورقة قوة لها.

الغرض ليس إحلال السلام، بل إحلال الوصاية الأمريكية غير المباشرة التي تضمن عدم نشوء أي تحدي أمني أو سياسي مستقبلي يهدد الهدوء الذي يُراد فرضه. هذا الترتيب يضمن أن تكون غزة، في “يومها التالي”، مجردة من كل ادوات المقاومة العسكرية والسياسية والأمنية، بل يعتمد وجودها على الإذن والتنسيق مع الأطراف التي قامت بالحرب عليها، وهي معادلة لا يمكن أن تنتج إلا سلاما هشا مبنيا على الإذعان. إن حقيقة المشروع الأمريكي تتضح بشكل صارخ في كيفية تعامله مع القانون الدولي عبر بوابة مجلس الأمن؛ فاستخدام حق النقض (الفيتو) ليس مجرد دعم لوجستي عسكري، بل هو إعلان عن “حصانة سياسية مطلقة” تمنح للحليف لإنهاء المهمة العسكرية على النحو الذي يُرضيه، بغض النظر عن الكلفة البشرية أو الإجماع الدولي.

هذا التكتيك يظهر أن واشنطن تفضل هدم الشرعية الدولية على السماح بوقف إطلاق النار غير المقيّد، مما يُؤكد أن أولوية “السلام” هي أدنى من أولوية “استكمال التدمير لغرض السيطرة”. الألعاب الدبلوماسية لا تقتصر على الفيتو؛ بل تتعداها إلى طرح مقترحات سلام إجرائية معقدة تُركز على تبادل الأسرى والإغاثة، بينما تؤجل عمدا معالجة القضايا الجذرية كإنهاء الاحتلال والاعتراف بالدولة الفلسطينية. هذا هو التلاعب بعينه: إلهاء العالم بالتفاصيل الإنسانية لإخفاء عملية التثبيت الاستراتيجي للوضع الأمني الذي يُلبي متطلبات القوة الأقوى. أما الخطر الأكبر فيكمن في أن مشروع الوصاية الأمريكية يهدف إلى تحويل الصراع من صراع وجودي على الأرض والحرية إلى مجرد “صراع إدارة حدود” وصراع للتحكم في معابر وممرات تجارية. النظرة الأمريكية لا ترى في غزة أرضا محتلة، بل تراه “مشكلة أمنية” تتطلب تدخلا خارجيا لترتيبها.

هذا التدخل يتم عبر فرض آلية أمنية طويلة الأمد تُشارك فيها أطراف إقليمية مقربة من واشنطن، مما يُعطي المشروع طابعاً دولياً وإقليمياً زائفا، بينما تبقى اليد العليا للقرار والتحكم في التفاصيل الحيوية في يد الإدارة الأمريكية ومَنْ تُعينه ليكون وصياً محلياً على القطاع. وبذلك، يكون المشروع الأمريكي للسلام هو في جوهره استمرار للحرب بأدوات السيطرة الدبلوماسية والأمنية، لضمان أن تبقى غزة حديقة خلفية تحت السيطرة، محرومة من القدرة على تحدي الأمر الواقع المفروض عليها بالقوة النارية ثم بالقوة الدبلوماسية.

Amjad Abuarafeh

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews