تقارير و تحقيقاتمقالات

إيطاليا…. شهوة القتل “سياحة وقناصة”

سيف الدين رحماني – كاتب صحفي وباحث أكاديمي مختص في الاستراتيجيا و العلاقات الدولية

استفاقت إيطاليا في تشرين الأول/ نوفمبر 2025 على فضيحة من العيار الثقيل فتحت بابا على أفظع صفحات التاريخ وحشية وإجراما في النصف الأوروبي الشرقي من الأدرياتيكي. جرائم الإبادة الجماعية التي دارت فصولها في البوسنة والهرسك.

جرائم كان أبطالها جنود وقناصة عملوا تحت إمرة الإرهابي المجرم راتكو ملاديتش جزار مذبحة سربرنيتسا التي راح ضحيتها أكثر من 8000 رجل وشاب مسلم.

حكم عليه بالسجن مدى الحياة في يونيو/ حزيران 2021 و هو جنرال اليد الباطشة لرادوفان كارادزيتش رئيس البوسنة آناذاك الطبيب والشاعر والقاتل بـ1000 وجه مختلف.

وصفت المجزرة بأنها الأسوأ في أوروبا منذ الحرب العالمية لعدة عوامل، من بينها عدد الضحايا الذين سقطوا من الأبرياء، وكذلك الطرق البشعة التي ارتكبت بها تلك المجزرة، إذ لم يفرق مرتكبوها بين شيوخ وأطفال ونساء، وكذلك لخرق القرار الأممي الذي كان يعتبر المدينة والمناطق المُحيطة بها كمنطقة آمنة وأن تكون خالية من أي تسليح أو أي عمل عدائي.

خصص بعدها ال 11 يوليو كيوم عالمي، وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في مايو الماضي وصاغته ألمانيا ورواندا بتأييد 84 صوتاً ومعارضة 19 صوتاً مع امتناع 68 دولة عن التصويت، جاء هذا القرار بهدف تذكر تلك المجزرة.

نعود بالتاريخ إلى الوراء, فما بين عامي 1991 و 1999، تفككت دولة يوغوسلافيا الإشتراكية السابقة التي كانت تتبع لجغرافيا الاتحاد السوفياتي، بعد انهيار هذا الأخير و تفككه دخلت دول البلقان في دوامة عنف و انقسمت إلى كيانات منفصلة بعضها استقل و بعضها عسر عليه ذلك، و كانت تغطي أراضي ما كان يعرف آنذاك بـصربيا، الجبل الأسود، البوسنة والهرسك، كرواتيا، مقدونيا، وسلوفينيا.

فمن بين جميع الصراعات، كانت الحرب في البوسنة هي الأكثر دموية لأنها كانت الأكثر انقسامًا على الصعيدين العرقي والديني.

فوحدات الجيش اليوغوسلافي، التي انسحبت من كرواتيا وأطلق عليها إسم جيش صرب البوسنة، اقتطعت مساحة شاسعة من الأراضي التي يسيطر عليها الصرب في البوسنة.

و تم طرد أكثر من مليون من البوسنيين والكروات من منازلهم في ما سمي بالتطهير العرقي، بحلول الوقت الذي انتهت فيه الحرب في عام 1995، قُتل ما لا يقل عن 100 ألف شخص.

تعاقبت سلسلة الأحداث الدامية وكانت في عهد جزار الصرب سلوبودان ميلوسوفيتش، ففي الجانب الآخر قامت القوات الصربية بتحويل مدينة فوكوفار الكرواتية إلى خراب. لكنه تلقى هزيمة عام 1991 حيث انفصلت كل من سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا عن اتحاد جمهوريات يوغسلافيا، الذي كانت تقوده صربيا.

وفى عام 1992 أعلن الشعب البوسني استقلاله عبر استفتاء شعبي. لكن ميلوسوفيتش و بعض الشيوعيين اشعلوا حرب البوسنة ثم دخلها و عاث فيها خرابا فحمّله العالم مسؤولية المجازر المرتكبة فيها، بحق المسلمين لا سيما في سربرينيتشا، وحاصر بعدها سراييفو، ثم رحِّل قسرا واعتقِل أكثر من ربع مليون مسلم.

بعد 3 سنوات من الحرب الشاملة في البوسنة، استمر بحصار سراييفو. بالتنسيق مع رادوفان كاراديتش، حيث كان المسؤول عن كسر القرار الأممي الخاص بالمدينة عندما أصدر توجيهاً لقوات صرب البوسنة في ما عرف بالتوجيه 7 من أجل ضرب حصار على المدينة والاستيلاء عليها.

خلال حصار المدينة، الذي استمر من أبريل 1992 إلى فبراير 1996، اذ حاصرت القوات البوسنية الصربية مجتمعة مع الجيش الشعبي اليوغوسلافي المدينة. قطعوا سراييفو حينها عن إمدادات الغذاء والتدفئة والكهرباء. حصار دام 1425 يوما و هو أطول حصار لعاصمة في تاريخ الحرب الحديث.

كان لهذا عواقب وخيمة على الوضع المعيشي لحوالي 400,000 من سكان المدينة.
توفي أكثر من 11000 شخص في سراييفو خلال هذه السنوات. و حدثت حينها مجزرة سربرينيتشا فقتل فيها أكثر من 8 آلاف مسلم.

ولاحقا اضطر ميلوسوفيتش نيابة عن صرب البوسنة إلى توقيع اتفاقية دايتون في نوفمبر/تشرين الثاني 1995 وبالتالي إنهاء القتال في البوسنة بشكل فعال، متخليا عن جزء كبير من حلم صربيا. ثم استفرد بهم رادوفان كارادزيتش فأذاقهم الويل أيام و ليال طوال.

بعد 30 عاما من انتهاء هذه الأحداث الدامية في ذاكرة الحرب البوسنية، شرع مكتب المدعي العام محامي الدولة في ميلانو نوفمبر 2025 بفتح ملف يحقق فيه عن “سياحة القناصة”.

تحقيقات المحكمة الإيطالية في سياحة القنص هذه استندت على تحقيق قام به الصحفي الاستقصائي و الكاتب الإيطالي Ezio gavazzeni على شكل فلم وثائقي بعنوان ” سفاري سراييفو” للمخرج السلوفيني ميران زوبانيتش لعام 2022.

يتعلق الأمر بمواطنين إيطاليين أثرياء منهم شخصيات مهمة مازالت تمتع بحظوة اجتماعية و سياسية وآخرين من دول غربية أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، بريطانيا، سويسرا، ألمانيا دفع هولاء للقوات البوسنية الصربية مئات الآلاف من الدولارات آنذاك في السنوات من 1993 إلى 1995 قدرت من 80 ألف إلى 100 ألف للقناص الواحد و ذلك من أجل التمتع بقنص المدنيين، و كان الدفع كل حسب النوع و القيمة فإن كانت الطرائد نساءً، أطفالا أو عجائز فإن الدفع يكون قليلا، أما إذا كانت الطرائد رجالا، جنودا فإن الجائزة كبيرة كل ذلك بدافع الشهوة و المتعة في القتل، واصطحب هاؤلاء القناصة القتلة أضيافهم السياح إلى تلال و براري سراييفو للتمتع بمناظر القنص.

وثقت التقارير بأنه تم تفكيك “سفاري القناصة” في البوسنة كجولات صيد في البلقان، والتي بدأت من مدينة تريستي الإيطالية على الحدود السلوفينية إلى العاصمة سراييفو.

بدأت التحقيقات ضد سياحة القناصة و المتورطين في هذه الحلقة الفظيعة من الإجرام في إيطاليا المزعومين بعد شكوى من الكاتب الميلاني إزيو جافازيني الصحفي الإستقصائي و الكاتب الروائي، حيث زود مكتب المدعي العام في ميلانو بوثائق وإفادات الشهود لسنوات من البحث.

و قال في مقابلة له مع أحد الصحف الايطالية “لقد قدمت ملفا من 90 صفحة يحتوي على معلومات مفصلة إلى المدعي العام، عن مواطنين إيطاليين كانوا من بين المشاركين في رحلات السفاري البشرية. ومع ذلك، فإن المدعي العام في ميلانو الذي يحقق في القضية لم يدخل بعد أي مشتبه بهم محددين في سجل تحقيقاته”

و أضاف ” في ذالك الوقت و لمدة أربع سنوات، تم تنظيم رحلات في نهاية كل أسبوع لما يسمى بالسياح القناصة, الذين انضموا إلى القوات البوسنية الصربية في تلال سراييفو لإطلاق النار على المدنيين. نحن نتحدث هنا عن 200 عطلة نهاية أسبوع أطلق فيها العديد من القناصة الإيطاليين والأجانب من الدول الغربية النار على المدنيين. ربما كانت وراء ذلك منظمة عرضت رحلات الرماة الأجانب الأثرياء من تريست – متنكرين في زي جولات الصيد في البلقان.”

و عن جذور القصة كان قد تساءل إزيو جافازيني بقوله: “بالفعل في عام 1995، ذكرت صحيفتان يوميتان إيطاليتان عن قناصة سياحيين مزعومين في البوسنة ولاحظت هذه المقالات. لكن الدافع للبحث بشكل أعمق والعثور على الشهود أعطاني من خلال الفيلم الوثائقي لعام 2022 “سراييفو سفاري” للمخرج السلوفيني ميران زوبانيتش. استنادا إلى تصريحات من مسؤولي استخبارات مجهولين، عن الأجانب الأثرياء الذين دفعوا لإطلاق النار على الناس في سراييفو. تم بث الفيلم الوثائقي في جميع أنحاء البلقان وفي العديد من البلدان الأفريقية. أتساءل لماذا لم يشتري التلفزيون الغربي حقوق هذا الفيلم.”

و يضيف ” كان القناصة أثرياء يمكنهم دفع ما يصل إلى 300000 يورو لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في تلال سراييفو. لم تكن هناك دوافع سياسية أو دينية. كانوا أغنياء ذهبوا إلى هناك للاستمتاع. نحن نتحدث عن الأشخاص الذين يحبون الأسلحة وربما يذهبون أيضا في رحلات السفاري إلى أفريقيا. بالنسبة لمثل هؤلاء الأشخاص، فإن إطلاق النار يشبه لعبة فيديو، ولا يهمهم ما إذا كانوا يقابلون حيوانا أو امرأة أو شخصا مسنا أو طفلا. إنهم يعرفون لغة المال فقط. يمكنهم الحصول على كل شيء بالمال. هناك صيادون يدفعون 200000 يورو لقتل أسد في أفريقيا. في حالة سفاري سراييفو، دفع هاؤلاء مقابل فريسة بشرية. أسمي هذا اللامبالاة بالبشر. يشعر هؤلاء الناس بأنهم كُليّوا السلطة ويعتقدون أنهم سيفلتون من العقاب.”

كان هؤلاء القناصة، العنصر الأكثر رعبا في الحياة تحت الحصار في سراييفو لأنهم كانوا يختارون الناس في الشوارع، بما في ذلك الأطفال، بشكل عشوائي، كما لو كانت لعبة فيديو أو سفاري.

بدأ المدعون العامون في ميلانو، بقيادة أليساندرو غوبي، هذا التحقيق الذي يهدف إلى تحديد هوية هؤلاء الإيطاليين المتورطين في تهمة القتل الطوعي التي تفاقمت بسبب القسوة والدوافع الدنيئة.
و قال غافازيني إنه قد حدد بعض الأفراد الإيطاليين الذين يزعم أنهم تورطوا والذين من المتوقع أن يتم استجوابهم من قبل المدعين العامين في الأسابيع المقبلة.
و قال نيكولا بريجيدا، المحامي الذي ساعد جافازيني في إعداد قضيته: “الأدلة المتراكمة بعد تحقيق طويل [من قبل جافازيني] مثبتة جيدا ويمكن أن تؤدي إلى تحقيق جاد لتحديد الجناة. و إحالتهم لأجهزة العدالة فتأخذ مجراها و يدفع هؤلاء ثمن الضحايا و الثكالى الذين برحت بهم رصاصات أولئك القناصين و دولارات أولئك المختلين.

Amjad Abuarafeh

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews