الحرب الروسية الأوكرانية: مأزق متصاعد وأفق غير واضح للأمن الأوروبي

بقلم : رائد الجحافي
تشهد الحرب الروسية الأوكرانية تصعيداً متبادلاً على الأرض وسط مفاوضات دولية متعثرة تهدف إلى التوصل إلى حل سياسي..
وتأتي هذه التطورات في ظل تأثيرات متزايدة على الأمن والاستقرار الأوروبيين، مع استمرار النزاع في فرض ضغوط اقتصادية وإنسانية على القارة..
في هذا المقال نحاول استعراض مقتطفات بسيطة من واقع النزاع، السيناريوهات المحتملة لنهايته، وتداعياتها على حلف الناتو وأوروبا بشكل عام..
دخلت الحرب الروسية الأوكرانية اليوم مرحلة مفصلية تعكس تصاعد الاحتقان على الأرض وتعقيداً متزايداً في المساعي السياسية للتهدئة. بعد فترة طويلة من الغموض إزاء نتائجها المستقبلية، بدأت ملامح تأثيرات النزاع على أوروبا تتضح بصورة أكبر وأشد حدة.تبقى المواجهات المسلحة متقلبة على الجبهات، حيث تحقق القوات الروسية تقدمات محدودة في بعض مناطق شرق أوكرانيا، بينما تحاول القوات الأوكرانية تثبيت خطوط دفاع استراتيجية، مثل منطقة بوكروسك.
في الوقت نفسه، تزداد الضغوط الدولية لدفع الأطراف نحو مفاوضات سلمية، وسط تناقضات حادة، كما ظهر في اقتراح سلام أمريكي من 28 نقطة يتطلب من أوكرانيا تقديم تنازلات مؤلمة أثارت جدلاً داخلياً واسعاً في كييف حول مدى توافقه مع مصالحها الوطنية..
روسيا من جهتها تؤكد استعدادها للاستمرار في التفاوض، لكنها متمسكة بأهدافها الاستراتيجية، مع إظهار ردود فعل إيجابية نسبياً تتعلق بتقدم عمليتها العسكرية..
أما السيناريوهات المستقبلية للحرب التي لا تزال تبدو معقدة، حيث تشير التحليلات إلى قدرة روسيا على الاستمرار لفترة طويلة حتى في ظل وجود ضغوط اقتصادية وعسكرية، لكنها تواجه قيوداً بسبب اعتمادها الاقتصادي على الصين. بينما تواجه أوكرانيا تحديات جمة، بما في ذلك استحالة تحقيق اي نصر عسكري حاسم حتى مع الدعم الغربي المباشر، نظراً لمخاطر تصعيد أوسع قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. بناءً على ذلك، يرجح استمرار حرب استنزاف طويلة الأمد مع قتال متقطع، وسط احتمالات تفاوضية ضعيفة لتحقيق أهداف كاملة لأي طرف..
أما على المستوى الأوروبي، فستكون القارة هي الطرف الأكثر تضرراً في حال استمرار النزاع، حيث ستتفاقم أزمة اللاجئين مع تزايد أعداد النازحين الأوكرانيين، وستتصاعد التوترات الأمنية مع احتمالية تمدد النزاع إلى داخل الأراضي الأوروبية عبر هجمات إلكترونية أو عمليات عسكرية محدودة. كما ستشهد الاقتصادات الأوروبية تبعات سلبية جراء استمرار العقوبات المتبادلة وتضرر سلاسل التوريد، إلى جانب تفاقم الضغط السياسي الداخلي على الحكومات والشعوب التي تطالب بحلول سريعة توفر الأمن والاستقرار..
في هذا السياق، تمثل الحرب اختباراً حقيقياً للسياسة الأوروبية وقدرة المجتمع الدولي على إدارة أزمات دولية عميقة، مع تداعيات تتجاوز حدود الشرق الأوروبي لتعيد تشكيل مستقبل الأمن الأوروبي والعالمي..
أما السيناريوهات المحتملة لنهاية الحرب وتأثيرها على الأمن الأوروبي فيمكن توزيعها وفق أربعة مسارات رئيسية، لكل منها تأثير جوهري على استقرار أوروبا، أولها احتمال الانتصار الكامل لروسيا، في حال تراجع الدعم الغربي لأوكرانيا أو انهيار جبهتها، قد تفرض موسكو سيطرة فعلية شاملة في الأراضي الأوكرانية مع حكومة موالية لها، مع استمرار مقاومة مسلحة وتوترات طويلة الأمد داخل أوكرانيا وأوروبا..
الاحتمال الثاني حرب استنزاف طويلة الأمد أو توقف النزاع بشكل غير مستقر، حيث سيتواصل القتال بوتيرة منخفضة وسط جمود سياسي وعسكري، مع مفاوضات هشة لا تؤدي إلى حل دائم، وبقاء أوروبا في حالة أمن متأرجح مع أعباء إنسانية وأمنية مستمرة..
والاحتمال الثالث اتفاق سلام شامل بتنازلات متبادلة، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى حل تفاوضي مع بعض التنازلات من الطرفين، ما يترك بعض القضايا عالقة ولكنه يعزز الأمن الأوروبي على المدى المتوسط، ويتيح إدماج أوكرانيا في هياكل أمنية أوروبية..
أما الاحتمال الرابع ولكنه ضعيف جداً إلى حد اللحظة وهو احتمال حدوث تغيرات داخلية في روسيا نتيجة ضغوط اقتصادية وسياسية داخلية قد تتصاعد وتؤدي إلى إضعاف نظام الرئيس بوتين، مما يمهد لانتهاء الصراع بشروط تصب في مصلحة أوكرانيا وأوروبا، لكن هذا سيناريو أقل احتمالاً في المدى القصير..
وتبرز تداعيات السيناريوهات على حلف الناتو والأمن الأوروبي السيناريو الأكثر احتمالاً في المشهد الحالي هو الاتفاق على تسوية مؤقتة، يتضمن قبول أوكرانيا لتنازلات مثل تجميد النزاع مع ضمانات أمنية محدودة وعدم انضمامها للناتو، وانتشار قوات حفظ سلام غربية على خطوط التماس.
هذا الأمر قد يؤدي إلى توترات داخل الحلف بسبب اختلاف مواقف الأعضاء بشأن الالتزام بالدفاع عن أوكرانيا، واختبار قدرة الناتو على التكيف مع واقع سياسي جديد..
وقد تكون هناك استفزازات عسكرية روسية محدودة داخل دول الحلف كالبلطيق وبولندا، مما يؤثر على تضامن الحلف ويثير خلافات بين الأعضاء حول الرد العسكري أو الحلول الدبلوماسية..
الأمر الآخر احتمال ارتفاع التوترات الأمنية في أوروبا الشرقية، مع احتمال تعزيز الناتو لقواته على الحدود، وسيقود إلى خلق ضغوط داخلية على دول الناتو، تحت تأثير تيارات قومية يمينية تقلل الالتزام الدفاعي، مما قد يهدد وحدة وفعالية الحلف.
هذا بالإضافة إلى احتمالات تعرض الناتو لفقدان القدرة على مواجهة تهديدات موسكو بشكل موحد، وخلق فراغ أمني يصعب سدّه في أوروبا..
السيناريو الأقل احتمالاً هو تصعيد عسكري شامل واندلاع مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا، لانه سيؤدي إلى حرب واسعة تفتح الباب امام المخاطر النووية، ما سيفرض تحولات استراتيجية ودفاعية عميقة وربما انهيار اقتصادي أوروبي..
في الختام، تظل الحرب الروسية الأوكرانية منعرجاً حاسماً يختبر الدبلوماسية الأوروبية والدولية على السواء. تتطلب هذه المرحلة اليقظة الدبلوماسية قبل العسكرية من أوروبا وشركائها، وسط مراقبة دقيقة من واشنطن التي توازن بين سعيها لإضعاف موسكو وألمانيا وأثر ذلك على حلف الناتو والقدرة الغربية على إدارة النزاع..



