تركيا وشرق ليبيا: قراءة في دلالات لقاء صدام حفتر وهاكان فيدان
أبوبكر إبراهيم اوغلو
في تطوّر سياسي لافت يعكس إعادة تشكيل التوازنات في شمال إفريقيا وشرق المتوسط، التقى نائب قائد الجيش الليبي صدام حفتر بوزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال زيارة رسمية إلى أنقرة. اللقاء، وإن جاء في إطار البحث عن ملفات مشتركة، يحمل في جوهره دلالات تتجاوز العلاقات الثنائية نحو سياق إقليمي ودولي آخذ في التحول.
هذا التحرك يفتح الباب أمام قراءة جديدة لدور تركيا في ليبيا، ولخيارات القيادة العامة شرق البلاد في ظل حالة السيولة الاستراتيجية التي تحيط بالمنطقة.
تركيا وإعادة ضبط تموضعها في ليبيا
طوال السنوات الماضية، ركّزت تركيا على دعم الحكومة الليبية في الغرب، مستندة إلى اتفاقات أمنية واقتصادية راسخة. غير أن التحولات في الساحل الإفريقي، وعودة المنافسة الدولية في المتوسط، دفعت أنقرة إلى تبنّي مقاربة أكثر شمولاً، تُبقي قنوات التواصل مفتوحة مع مختلف الأطراف الليبية، بما فيها الشرق.
أبرز دوافع التحرك التركي
- الحاجة إلى تعزيز حضورها البحري في شرق المتوسط.
- توسيع نفوذها في السودان والنيجر وتشاد عبر البوابة الليبية.
- إدماج الشرق الليبي في معادلة التفاهمات البحرية الاستراتيجية.
وتنظر أنقرة إلى ليبيا اليوم بوصفها نقطة ارتكاز مركزية تربط المتوسط بإفريقيا، وتوفر لها مجالاً حيويًا للمنافسة الإقليمية على مستويات الطاقة والأمن والهجرة.
القيادة العامة… البحث عن خيارات أوسع
بالنسبة لصدام حفتر والقيادة العامة، يأتي الانفتاح على تركيا في إطار إعادة تقييم شبكة الحلفاء، خصوصًا مع ضغوط أمريكية على ملف التسليح، وتراجع قدرة روسيا على فرض نفوذ حصري في الشرق الليبي.
أهداف القيادة العامة من الانفتاح
- تنويع الشراكات الدولية لتوسيع هامش المناورة السياسية والعسكرية.
- الاستفادة من موقع تركيا داخل حلف الناتو لفتح قنوات غربية جديدة.
- دعم الجهود الأمنية في الجنوب في ظل توتر الأوضاع في الساحل والسودان.
- تهيئة بيئة اقتصادية جديدة عبر الشركات التركية العاملة في البناء والإعمار.
هذا التحرك لا يعني تغيير التحالفات بشكل فجائي، بقدر ما يعكس محاولة لبناء شبكة متوازنة من العلاقات تعبر عن حساسية المرحلة وتعقيداتها.
البعد الإقليمي: ليبيا داخل خرائط الساحل والمتوسط
تكشف المعلومات المتاحة من اللقاء أن القضايا التي نوقشت لا تقتصر على الوضع الداخلي الليبي، بل تمتد إلى التحولات الإقليمية الأوسع، من بينها:
- التطورات في السودان ومنطقة الساحل الإفريقي.
- ديناميات التنافس التركي ـ الروسي على المجالين الليبي والإفريقي.
- عودة الاهتمام الغربي بملفات الطاقة والغاز والهجرة غير النظامية.
بهذا المعنى، لم تعد ليبيا مجرد ساحة صراع محلي، بل أصبحت نقطة تقاطع رئيسية بين مصالح واشنطن وموسكو وأنقرة وعواصم أوروبية عديدة، وهو ما يجعل أي تغيير في علاقاتها الداخلية انعكاسًا لنمط أوسع من التحولات الدولية.
ترسيم الحدود البحرية… مركز الثقل في المقاربة التركية
يمثل ملف الحدود البحرية أحد أهم محاور التقارب بين تركيا والشرق الليبي. فأنقرة ترى في هذا الملف جزءًا أساسيًا من مشروعها المتوسطي، بينما تنظر القيادة العامة إليه كفرصة لتطوير مشاريع كبرى للموانئ والممرات التجارية وإعادة الإعمار على شريط الساحل الليبي.
هذا الملف بالذات يحمل انعكاسات عميقة على العلاقات التركية مع مصر واليونان والاتحاد الأوروبي، وقد يتحول إلى إحدى أدوات أنقرة لإعادة بناء نفوذها البحري وترسيم دورها في معادلة الغاز والطاقة في شرق المتوسط.
البنية الاجتماعية: أهمية الفاعلين المحليين
حرص الجيش الليبي خلال اللقاء على التأكيد على دور القبائل في رسم المشهد شرق ليبيا، وإبرازها كضامن اجتماعي لأي ترتيبات سياسية أو أمنية مستقبلية. وتدرك تركيا أن دخولها إلى الشرق يمر عبر فهم عميق للبنية القبلية، وهو ما يفسر حرصها على التواصل مع الفاعلين الاجتماعيين إلى جانب القيادات السياسية والعسكرية.
هذا البعد الاجتماعي يمنح أي تفاهمات محتملة بين أنقرة والقيادة العامة قدرًا أكبر من الواقعية، ويقلل من احتمالات الاصطدام مع القوى المحلية الفاعلة على الأرض.
الولايات المتحدة وروسيا: مراقبة وقلق متبادل
تتابع الولايات المتحدة التقارب التركي ـ الليبي في الشرق باعتباره فرصة لتقييد النفوذ الروسي، بينما تتعامل موسكو بحذر مع الدور التركي، مدركة في الوقت ذاته أن أنقرة ليست خصمًا مطلقًا، وأن الطرفين يديران في ملفات أخرى (مثل سوريا والقوقاز) توازنًا مرنًا يمكن أن ينعكس على الساحة الليبية.
هذا التوازن الدولي يعزز أهمية تركيا بالنسبة للقيادة العامة، ويجعل من التقارب معها خطوة محسوبة بعناية في ضوء التقاطعات المعقدة بين واشنطن وموسكو وأنقرة داخل ليبيا وحولها.
الأبعاد الاقتصادية: ليبيا كساحة مفتوحة للشركات التركية
تلعب الشركات التركية دورًا مهمًا في مشاريع الإعمار، خصوصًا في مجالات البنية التحتية والطرق والإسكان والموانئ. ويعكس الاهتمام بهذا الجانب رغبة الطرفين في نقل العلاقة من مستوى التفاهمات السياسية والعسكرية إلى مسار تعاون اقتصادي مستدام، يساعد في إعادة الإعمار وخلق فرص استثمارية جديدة في الشرق الليبي.
بهذا المعنى، يتحول الاقتصاد إلى أداة ناعمة لترسيخ النفوذ وتثبيت الشراكة، بعيدًا عن لغة الاصطفاف الأمني وحدها.
مسار جديد
لا يشير لقاء صدام حفتر وهاكان فيدان بالضرورة إلى ولادة تحالف سياسي جديد، لكنه يمثّل خطوة أولى في مسار أوسع لإعادة صياغة العلاقات بين تركيا والشرق الليبي.
إنه لقاء يعكس:
- براغماتية الطرفين في التعامل مع المتغيرات الإقليمية والدولية.
- محاولة بناء مقاربة أكثر شمولًا للملف الليبي تتجاوز الانقسام التقليدي بين الشرق والغرب.
- رغبة مشتركة في استثمار التحولات الجارية لرسم أدوار جديدة لكل طرف في ليبيا وما حولها.
وبذلك، يمكن اعتبار هذا اللقاء جزءًا من مشهد أوسع يُعاد فيه رسم توازنات ليبيا بين المتوسط والساحل، في ظل إعادة تشكل خريطة النفوذ الإقليمي والدولي. وهو مسار مفتوح على احتمالات متعددة، من تعميق التعاون، إلى إعادة توزيع الأدوار بين القوى الحاضرة في الساحة الليبية.



