مقالات

الحملات الشعبية في سوريا وملف إعادة الإعمار..

بقلم: أنس المحمد

بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر الماضي بدأت حقبة جديدة في سوريا مليئة بالتحديات والصعوبات على جميع المستويات؛ من المخيمات التي تأوي مليون مهجر إلى المدن والبلدات المهدمة والبنية التحتية المدمرة والقطاع الصحي والتعليمي المنهك ومؤسسات الدولة المنهارة.

بدأت الإدراة الجديدة وعلى لسان الرئيس أحمد الشرع مرحلة البناء والعمل وإعادة العلاقات الخارجية وتفكيك الأزمات وطرح الحلول.

لكن الشعب السوري آثر المشاركة في هذه اللحظة التاريخية والمصيرية من تاريخ ومستقبل سوريا فبدأ بتنظيم حملات شعبية في المدن والبلدات السورية هدفها جمع التبرعات الشعبية للمساهمة في ما تيسر من دعم القطاع الصحي والتعليمي والخدمي في هذه المدن والبلدات وبدأت الفكرة لأول مرة في 14 أغسطس الماضي في ما سمي ب “أربعاء حمص” حيث جُمِع أكثر من 13 مليون دولار لدعم مشاريع خدمية وصحية وتعليمية في محافظة حمص؛ وتلك كانت الشرارة لسلسلة حملات شعبية توزعت على خارطة سوريا بأكملها في 17 حملة تبرعات إلى الآن؛ جمعت مئات الملايين من الدولارات التي ستستهدف كما ذكرنا البنية التحتية في هذه المدن والبلدات؛ ووصلت أعلاها في حملتي الوفاء لادلب 208 مليون دولار والفداء لحماة 210 مليون دولار.
لكن ما يميز هذه الحملات ليس فقط جمع الأموال وإحصاء الأرقام بل دخول ثقافة جديدة إلى المجتمعات السورية تعتمد على التكافل والتعاضد في سبيل نهضة مدنهم وتحسين واقع الخدمات في قراهم؛ تلك الثقافة التي نراها في المجتمعات الأوربية كثيراً وخصوصاً عبر حملات جمع أموال على وسائل التواصل الإجتماعي لفقير أو مشرد أو مريض أو طفل يعاني من مرض عضال الخ؛ وقد شاهدنا ذلك مؤخراً في الشرق الأوسط فبعد الزلزال الذي ضرب تركيا في 2023 جمعت في تركيا على محطات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي 6 مليارات دولار لدعم متضرري الزلزال.

كما شهدنا حملات عربية على السوشل ميديا من مؤثرين تستهدف جمع التبرعات لغزة أو النازحين في المخيمات وأيضاً جمعت ملايين التبرعات.

بدأت تنتشر هذه الثقافة في الشرق الأوسط وخصوصاً في دولنا العربية وبعد سقوط الأسد؛ شعر السوريون أن مدنهم وقراهم أصبحت ملكهم وأصبحت بيتهم الكبير فنظموا تلك الحملات التي تعد أهم مظاهر التكافل الاجتماعي والوطني وهي بالأساس ليس غريبة عن طبيعة المجتمعات العربية عامةً التي تملك إيمان عميق بفعل الخير إلا أن تلك الحملات عززت فكرة العمل الجماعي داخل تلك المجتمعات ووحدت رؤيتهم لأهمية هذا العمل ونتائجه في خدمة مدنهم وبلداتهم.

ساهمت في هذه الحملات الشعبية كل الفئات الاجتماعية من العامل البسيط إلى التاجر والطبيب والمثقف والوزير والمحافظ حتى السوريين في الخارج دعموا تلك الحملات ونظموا حملات موازية وداعمة لها في بلاد؛ الاغتراب؛ ولاقت الحملات الشعبية تأييداً كبيراً من مختلف فئات الشعب السوري وشهدت الحملات ترويج كبير ودعم منظم لها على مواقع التواصل الاجتماعي ووضع لكل حملة اسم وشعار وتصميم مميز؛ لكن هذه الحملات لم تسلم من الانتقادات سواء الايجابي منها أو تلك الانتقادات اللاذعة التي ذهبت بعيداً في التقليل من أهمية الحملات وأن المبالغ وهمية ومنهم من ذهب إلى التشكيك في أمانة منظمي الحملات والتشكيك في سرقة الأموال وتقاسمها بين الجهات المنظمة والحكومة لسان حالهم يقول (بلعوهم) أي تبخرت الأموال؛ لكن القائمين على الحملات أكدوا مراراً أن المشاريع المستهدفة سيبدأ العمل عليها بعد 24 ساعة فقط؛ وأن الترتيبات إدارية وقانونية وخطط العمل للبدأ بتلك المشاريع على الأرض لن تتوقف وسيعلن عنها باستمرار؛ وذهب البعض إلى ربط تلك الحملات في مبدأ إعادة الإعمار الشامل في سوريا وأن تلك الحملات يجب أن تظهر تحسن ملموس وواضح للمواطن السوري متجاهلين تماماً إحصائيات الأمم المتحدة التي تحدثت عن 200 مليار دولار لإعادة إعمار سوريا كمبلغ أولي لكن الرئيس الشرع صرح في إحدى مقابلاته أن الرقم لا يقل عن 400 مليار دولار؛ كما ظهرت أصوات أوضحت أن الرقم قد يصل إلى 800 مليار أمريكي.

وبالحديث بلغة الأرقام فإن مجموع الحملات مجتمعة يقارب 650 مليون دولار أي أقل من مليار دولار ولو اعتمدنا احصائية الأمم المتحدة فهي نسبة لا تتجاوز نصف بالمئة من اجمالي تكلفة إعادة الإعمار.

والحقيقة أن ملف إعادة الإعمار أكبر وأعقد من أن تتحمله حملات شعبية محلية أو حتى حملات عربية أو إقليمية؛ ملف بهذا الشكل لبلد تعرض لحرب مدمرة لمدة 14 عاماً هو ملف دولي والمجتمع الدولي معني به بالدرجة الأولى ويحتاج إلى قرار سياسي دولي وخطط اقتصادية موسعة ناهيك عن الإجماع على ذلك في بلد يحكمه موقعه الجغرافي المعقد والذي يشكل ساحة مفتوحة للاستقطابات الإقليمية والدولية فضلاً عن صعوبة التعامل السريع مع إلغاء الكثير من العقوبات الدولية على سوريا فتلك العقوبات وتلك الاجراءات تحتاج وقت طويل حتى نصل إلى مشروع قرار على غرار “مشروع مارشال” الذي أعلنت عنه أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية لمساعدة دول أوروبا في تخطي تبعات تلك الحرب.

وحتى لا نذهب بعيداً باليأس والاستسلام فإن إعادة الإعمار ليس ملف مستحيل ومفتاحه الدبلوماسية المرنة التي تنتهجها الحكومة الحالية وعوامل أخرى؛ لكن بالتأكيد ليس مفتاحه الحملات الشعبية السورية ولا حتى المساعدات المالية والخدمية التي تقدمها الدول الصديقة لسوريا وهي معروفة لدى القارئ.

إن طريق سوريا الجديدة ليس مُعَبد بالورود أو الخيارات المزهرة وبالمقابل ليس طريق مستحيل فبعد سقوط الأسد بعد عملية استعصاء دولي واقليمي حول دوره وتعويمه أصبح المستحيل في الملف السوري ممكناً؛ إلا أن هذا الطريق سيبقى متكامل سواء من الشعب أو الحكومة ولا يمكن أن يسير إلا على قدمين (الشعب والحكومة) إن جاز التعبير؛ فالمبادرات الشعبية والتكامل المجتمعي لا يسد احتياجات النهوض لكنه يخلق جو من الوحدة الوطنية ويبث شعور بالانتماء بين أبناء الوطن الواحد ويدفع الحكومة إلى مزيد من العمل والجهد ورفع الكفاءة؛

أولاً: لمجاراة وعي الشعب الذي ينظم الحملات ويرفع الصوت لبناء وطنه وثانياً: لإقناع هذا الشعب أن الحكومة التي تمثله تحمل همومه ويهمها النهوض في سوريا وجبر الضرر والإصلاح السياسي والاقتصادي العام.

أما أصوات الصاخبة التي تشكك في كل شيء فهذه الفئة كانت ولا زالت موجودة طوال السنوات الماضية وهي فئة يكاد لا يخلو منها أي مجتمع لكننا بحاجة إلى نشر الوعي الكافي للتعامل معها بالطريقة الصحيحة عبر الشفافية في التعامل بين السوريين سواءً قيادةً أو شعباً وتفعيل مبدأ المحاسبة دائماً وعلى جميع المستويات.

الحملات الشعبية في سوريا مستمرة ويعلن عنها باستمرار وبالتأكيد سنلاحظ في السنوات القادمة تطورها وتحولها إلى ثقافة عامة بالإضافة إلى مبادرات شعبية أخرى كمبادرات علمية أو تطوعية أو حتى فنية ورياضية وغيرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews