برنامج “ادرس في العراق” خطوة استراتيجية في بناء القوة الناعمة العراقية..

عبدالله حسن زيد -مراسلين
تتنافس الدول في عصرنا الحالي على التأثير من خلال الثقافة والتعليم والتبادل الإنساني بدلاً من القوة العسكرية فقط، يبرز برنامج “ادرس في العراق” كأحد أبرز الأدوات الناجحة للقوة الناعمة العراقية. هذا البرنامج، الذي أطلقته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية في نسخته الأولى عام 2023، ويصل الآن إلى نسخته الثالثة للعام الدراسي 2025-2026 ، وهو ليس مجرد مبادرة تعليمية، بل هو حملة إعلامية وعلمية وسياسية مدروسة تهدف إلى إعادة رسم صورة العراق في أذهان العالم، خاصة في الوطن العربي في وقت يتعافى فيه العراق من تراكمات عقود من الحروب والحصار والإرهاب والتدخلات الخارجية، يأتي برنامج “ادرس في العراق” ليؤكد أن أقوى رد على كل هذه التحديات ليس السلاح ولا الشعارات، بل هو الإنسان والعلم والكرم، هذا البرنامج ليس مجرد منح دراسية، بل هو مشروع وطني استراتيجي يعيد للعراق دوره التاريخي كمنارة علمية وثقافية في المنطقة، ويحول الطالب الوافد إلى سفير حقيقي ينقل صورة العراق الجديد إلى كل بيت عربي.

كيف يعمل البرنامج على نقل الصورة الصحيحة عن العراق؟
لعقود طويلة، سيطرت صورة سلبية عن العراق كرّسها الإعلام الدولي المعادي: حروب، إرهاب، عدم استقرار، هذه الصورة، رغم أنها جزء من تاريخ مؤلم، لم تعد تعكس الواقع الحالي لعراق يشهد استقراراً أمنياً ملحوظاً، نمواً اقتصادياً، ونهضة تعليمية وبحثية. برنامج “ادرس في العراق” يحارب هذه الصورة النمطية بطريقة ذكية ومباشرة:
التجربة الشخصية هي أقوى إعلام: عندما يأتي طالب عربي أو أجنبي إلى بغداد أو البصرة أو أربيل أو النجف، ويعيش بين العراقيين، يدرس في جامعات حديثة، يزور الأسواق والمواقع الأثرية، ويشارك في الحياة اليومية الآمنة والحيوية، يعود إلى بلده سفيراً حقيقياً للعراق.
هؤلاء الطلاب ينشرون صوراً وفيديوهات وقصصاً على وسائل التواصل الاجتماعي، يتحدثون عن كرم الشعب العراقي، عن التنوع الثقافي، عن الجامعات المتميزة في الطب والهندسة والعلوم الإنسانية. هذا الإعلام “العضوي” أقوى بكثير من أي حملة إعلانية مدفوعة.
استقطاب الطلبة العرب تحديداً: البرنامج يركز بشكل كبير على الطلاب من الدول العربية (مصر، الأردن، فلسطين، اليمن،سوريا، السودان، المغرب، تونس، إلخ)، حيث يوفر منحاً مجانية كاملة تشمل الرسوم الدراسية، السكن، والتأمين الصحي في كثير من الحالات. هذا التركيز ليس عشوائياً؛ فالعرب هم الأقرب ثقافياً ولغوياً، وتأثيرهم في تشكيل الرأي العام العربي هائل. عندما يعود آلاف الخريجين العرب إلى بلدانهم حاملين شهادات عراقية وذكريات إيجابية، يصبحون جسراً لتعزيز الروابط العربية-العراقية، ويحاربون الدعاية السلبية التي استمرت سنوات.

البرنامج كجزء من القوة الناعمة العراقية:
القوة الناعمة، كما عرّفها جوزيف ناي، هي القدرة على التأثير من خلال الجذب لا الإكراه. العراق، بتاريخه الحضاري العريق (مهد الحضارات، بغداد عاصمة العلم في العصور الوسطى)، يمتلك إرثاً هائلاً يمكن استثماره، فبرنامج “ادرس في العراق””:
أولاً: يعيد العراق إلى خريطة التعليم الدولي، كما كان في السبعينيات والثمانينيات عندما كانت جامعاته تستقطب آلاف الطلاب العرب.
ثانياً: يبني شبكة من “الأصدقاء” في الخارج: خريجون يشغلون مناصب قيادية في بلدانهم، يتذكرون العراق بإيجابية، ويدعمون سياساته في المحافل الدولية.
ثالثاً: يعزز التبادل الثقافي: الطلاب الوافدون يتعلمون اللغة العربية الفصحى، يدرسون التاريخ العراقي، يشاركون في الفعاليات الثقافية، مما يعمق فهمهم للقضايا العربية المشتركة مثل القضية الفلسطينية والوحدة العربية.
أهمية البرنامج في ظل التحديات الكبرى التي يواجهها العراق: العراق اليوم يواجه تحديات متعددة الأبعاد، لكن البرنامج يحول كل تحدٍّ إلى فرصة:
التحدي الأمني والصورة الذهنية السلبية لا يزال بعض الإعلام الغربي والإقليمي يصور العراق كأرض حرب دائمة، كل طالب يأتي ويعود سالماً معافىً، ينشر مئات الصور والفيديوهات على تيك توك وإنستغرام وسناب شات، يكذّب هذه الصورة عملياً، في العام 2025-2026 وحده، سيصل عدد الطلاب الوافدين إلى أكثر من 16,500 طالب وطالبة، أي أكثر من 16,500 قصة نجاح شخصية تنتشر في كل الدول العربية.
التحدي الاقتصادي والبطالة بين الشباب البرنامج يحرّك عجلة اقتصادية صغيرة لكنها مهمة: المطاعم، النقل، السياحة التعليمية، المكتبات، حتى بيع الملابس والأجهزة الإلكترونية، كما أنه يفتح أبواب التعاون الأكاديمي مع الجامعات العربية، مما يجلب تمويلاً بحثياً وشراكات مستقبلية.
تفنيد الانقسام وخلق روح التآلف الاجتماعي: عندما يجتمع في قاعة واحدة طالب فلسطيني مع يمني ومصري وسوري وليبي وجزائري، ويدرسون مع طلاب عراقيين من الموصل وبغداد والبصرة والنجف وأربيل والسليمانية، يصبح الجامعة مختبراً حياً للوحدة الوطنية والعربية، ويرسخ ثقافة التعايش التي حاول الإرهاب تدميرها.
التحدي الديموغرافي والنزيف الدماغي: الكثير من الشب
اب العراقي الموهوب لا يزال يهاجر بحثاً عن فرص أفضل. رؤية آلاف الطلاب العرب يفضّلون الدراسة في العراق تعيد الثقة للشاب العراقي ببلده، وتشجعه على البقاء والمساهمة في النهوض.
التحدي الجيوسياسي في منطقة تتصارع فيها النفوذ الإيراني والتركي والأمريكي والخليجي، يقدّم العراق نفسه كدولة محايدة إيجابية، مفتوحة للجميع، تستقبل الطالب اليمني والسوري والفلسطيني والمصري بنفس الترحاب، مما يعزز موقفه كقوة توازن إقليمية تعتمد على الكرم والعلم لا على السلاح.

وحول برنامج التعليم “ادرس في العراق”: يتحدث طالب الدكتوراه ساعود جمال ساعود عن تجربته:
فمن محافظة حماه السورية حيث مرقد الإمام علي زين العابدين عليه السلام، وفي قرية تتوسط المساحة بين جبال اللاذقية وسهل الغاب الخصب، يحوز غالبية أبنائها شهادات عليا بمختلف الاختصاصات العلمية، وبطموح لا يقف عند تخصص بحد ذاته في مجال العلوم السياسية، شجعني ما خبرته من التطور الكبير الذي وصل إليه العراق الحبيب بجامعاته العامة والأهلية، وأذهلني ما رأيته من تخصصاته لا يعرف عنها السوريون شيئاً، ونال إعجابي همة أصدقائنا وأحبتنا من أساتذة وسيدات العراق المتخصصين بالعلوم السياسية لا سيما العلاقات الدولية والسياسة الخارجية في الجامعة المستنصرية، والدراسات الاستراتيجية في كلية العلوم السياسية جامعة النهرين، وما تضمه من نخب وأصدقاء وأحبه بمنتهى المهنية والأخلاق والأدب، اساتذة اعتكفت على قراءة مؤلفاتهم وبحوثهم العلمية، ونالوا المحبة والتقدير بما حازوه من علم وخلق فاضل، فقمت وأنا الحائز على المرتبة الثالثة في البكالوريوس والمرتبة الأولى على قسم الدراسات السياسية في مرحلة الماجستير، تخصص الدراسات السياسية – كلية العلوم السياسية – جامعة دمشق، بالتقديم على برنامج أدرس في العراق، لدراسة الدكتوراه في العلاقات الدولية في الجامعة المستنصرية ضمن الدفعة الثالثة من البرنامج (2025-2026)، والتي عرفتها من قبل عبر تتبع الأثر العلمي لأشخاص متميزين أدباً وخلقاً وعلماً ، هم أشخاص جعلوني أحب العراق وألمس ثراه بقلبي وروحي قبل أن أصل إليه عبر مطار بغداد ، والنتيجة أن قُبلتُ بمنحة مجانية كاملة تشمل الرسوم والسكن والتأمين الصحي.
البداية كانت عندما وصلت إلى مطار بغداد الدولي، كان في استقبالي الكفيل المندوب من قبل الجامعة الأستاذ حسين؛ أستاذ بقمة اللطافة والاحترام، رافقنا وما يزال خطوة بخطوة، رسالة نبيلة أكملها من بعده الدكتور الفاضل خالد رشيد ومسؤولي الكادر الإدراي في الجامعة المستنصرية لا سيما السيد باسم الأسدي ورؤساء الأقسام والموظفين، ومن أول لحظة شعرت أنني لست غريباً، بل ضيفاً عزيزاً في بيت أهلي والأسباب كثيرة منها:
أولاً: الشعب العراقي: طيبتهم تفوق الوصف، كرماء شجعان، أهل تقوى ودين، مثقفون يحبون العلم، أشعرونا أن العراق خزان اجتماعي وثقافي يحفظ القيم العربية الأصلية التي انقرضت في الكثير من المجتمعات العربية الإسلامية، أشعروني كسوري أنني في سوريا الثانية ولا عجب في ظل تشابه بنية المجتمعين الشقيقين.
ثانياً: عمادة كلية العلوم السياسية السيد الفاضل الدكتور عبد الجبار عبد العال: يجمع السيد عميد الكلية بين الحس الأبوي والحس الإداري كمسؤول لمؤسسة تعليمية، يشرف على عملية بناء أسمى ما في الوجود ألا وهو الإنسان من حيث تلقينه الآداب العامة والمعلومات اللازمة لهم كمختصين بمجال العلوم السياسية علاوة على المهارات التي تعزز الجانب السلوكي في شخصية الطالب، السيد العميد يداوم على التواصل الدوري والمباشر مع الطلاب بكافة المراحل والاطلاع على أفكارهم لتطوير الكلية، وهو بهذه السلوكيات يقدّم نموذجاً قيادياً إدارياً وإنسانياً نحتاجه بكافة المجتمعات العربية.
ثالثاً: الأساتذة: قمة في الأخلاق والعلم والتواضع، مستوى البحث العلمي في قسم العلاقات الدولية فاجئني بجودته وحداثته، في الرصيد العلمي لكل أستاذ نجد عشرات البحوث والمؤلفات والمشاركة بالمؤتمرات العلمية، صفاتهم النفسية واستقراء حركات أجسادهم وطريقة المعالجة والتحليل وإلقاء المحاضرات، تعبّر عن مقدار ثقتهم بأنفسهم وحبهم لوطنهم والتزامهم بواجبهم الأخلاقي والعلمي، هي ظاهرة عامة وليست خاصة، وهي بحد ذاتها نجاح للعراق والعراقيين وللجامعة المستنصرية بشكل خاص.
رابعاً: الطلاب العراقيون: إخوة حقيقيون، أخلاقيون على قدر عالٍ من الإنسانية، بعضهم كبار القدر والسن، وآخرون بمقتبل العمر ميزتهم النشاط والذكاء بدون استثناء، يساعدون وفق مقدرتهم بكل شيء: الاطلاع على خصوصيات المجتمع وعادات وتقاليد كل منطقة أو شريحة اجتماعية، وشرح اللهجة، اصطحابي إلى الأماكن والمراكز العامة، المساعدة في الواجبات الدراسية، أخوة حقيقيون أخص بالذكر الدكتور حسن فاضل الذي يجمع في شخصه بين الأدب والعلم.
خامساً: السكن الجامعي: نظيف ومريح وآمن، إنترنت، قاعات دراسة مكيفة، وحتى صالة رياضية، مدير السكن السيد علي شناوه بقمة الطيبة واللطافة والأخلاق الحميدة ووجه دبلوماسي يعكس الصورة الإيجابية للإنسان العراقي العريق بقيمة وصفاته الأصيلة.
سادساً: حب العراقيين للشعب السوري: شيء يدمع العين، في كل مكان أسمع “سوريا والعراق قلب واحد”، “دم السوري والعراقي ما ينفصل، ماكو فرق، نحبكم كلش، من نطب سوريا نفرح هوايه”، الناس يتذكرون وقوف سوريا مع العراق في أصعب الظروف، ويردون الجميل اليوم بكل حب.

حتى الآن، بعد ثلاثة أشهر فقط، غيّر البرنامج حياتي تماماً، أصبحت أفكر جدياً في البقاء في العراق بعد الدكتوراه، وأحلم بأن أكون جسراً بين الجامعات السورية والعراقية، والشيء بالشيء يذكر، عندما سألني باتصال خاص أحد المسؤولين بوزارة التعليم العالي في سوريا عن الوضع في العراق، أجبت بحب وغضب: ” تعالوا وشوفوا بأنفسكم، العراق اليوم غير اللي بتشوفوه بالإعلام.. العراق أمان وكرامة وعلم وأخوة”.
هذه ليست دعاية، هذه شهادة من قلب عاش التجربة ويدخل في غمارها يوماً بعد يوم … بالنتيجة: برنامج “ادرس في العراق” ليس مجرد مبادرة تعليمية، بل هو مشروع أمل وطني يقول للعالم العربي: العراق عاد.. عاد أقوى وأجمل وأكرم من أي وقت مضى.. تعالوا، الباب مفتوح، والقلوب أوسع من الباب.



