اتفاق الحدود البحرية بين لبنان وقبرص يعيد خريطة شرق المتوسط ويستفزّ أنقرة: بين مصالح الطاقة وحسابات السياسة

ريتا الأبيض – مراسلين
أنهى لبنان وقبرص في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2025 ما يقارب العقدين من الجمود، بتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بينهما في قصر بعبدا. وجاء التوقيع وسط ترحيب رسمي من بيروت ونيقوسيا، في مقابل اعتراض حاد من أنقرة التي رأت أن الاتفاق «يمسّ حقوق القبارصة الأتراك» ولا يمكن القبول به.
يأتي الاتفاق في وقت يحاول فيه لبنان الخروج من أزمته الاقتصادية عبر فتح الباب أمام الاستكشافات البحرية. وفي المقابل، ترى قبرص أن الاتفاق يشكّل فرصة إضافية لتعزيز موقعها كممر محتمل لموارد الغاز نحو أوروبا، في ظل تنافس إقليمي محتدم على موارد شرق المتوسط.

خلفية تاريخية: اتفاق وُقّع عام 2007 وبقي معلّقًا
تعود القصة إلى كانون الثاني/يناير 2007، حين وقّع لبنان وقبرص اتفاقًا أوليًا لترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما. استند الاتفاق إلى خط الوسط بين سواحل البلدين، وكان يُفترض أن يشكّل قاعدة واضحة لتنظيم الاستفادة من الثروات البحرية. لكن الاتفاق دخل في مسار معقّد.
صادقت قبرص على الاتفاق عام 2009، بينما امتنع البرلمان اللبناني عن التصديق، معتبرًا أن الترسيم آنذاك لا يحمي كامل الحقوق البحرية للبنان، وقد يتعارض مع حدوده الجنوبية غير المرسّمة مع إسرائيل.
التحفّظ اللبناني ازداد بعد اتفاق 2010 لترسيم الحدود البحرية بين قبرص وإسرائيل، إذ رأت بيروت أن الإحداثيات التي اعتمدتها قبرص وإسرائيل تنتقص من مساحتها البحرية. ومنذ ذلك الحين، بقي اتفاق 2007 معلّقًا، وتحوّل إلى أحد ملفات التجاذب الداخلي والإقليمي.
اتفاق 2022 مع إسرائيل: نقطة تحوّل في الحسابات اللبنانية
في تشرين الأول/أكتوبر 2022، توصّل لبنان وإسرائيل إلى اتفاق لترسيم حدودهما البحرية بوساطة أميركية. أنهى الاتفاق خلافًا علنيًا استمر سنوات حول حقلي قانا وكاريش. وأسهم هذا الإنجاز في إزالة التعارض الحدودي الذي كان يعرقل استكمال الترسيم بين لبنان وقبرص.
بالنسبة إلى لبنان، مثّل إنهاء النزاع مع إسرائيل خطوة أساسية لاستقطاب شركات الطاقة العالمية، رغم أن مياه لبنان لم تشهد بعد اكتشافات تجارية مؤكدة. ومع ذلك، اعتُبر استكمال الترسيم مع قبرص جزءًا من استراتيجية لضبط حدود البحر وتحويل الملف إلى عنصر دعم اقتصادي محتمل.

2025: من موافقة الحكومة إلى التوقيع الرسمي
بعد سنوات من التعثّر، أقرّت الحكومة اللبنانية في خريف 2025 صيغة محدّثة لترسيم الحدود البحرية مع قبرص، في خطوة أنهت حالة التعليق التي استمرت حوالي 18 عامًا.
وفي 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، وقّع الرئيس اللبناني جوزيف عون ونظيره القبرصي نيكوس خريستودوليديس الاتفاق النهائي في قصر بعبدا. وجرى وصفه بأنه «تاريخي» و«محطة مفصلية» في العلاقات الثنائية. وشدّد الجانبان على أن الاتفاق يمهّد لتعاون أوسع في مجالات الطاقة والبنى التحتية البحرية.
يعتمد الاتفاق الجديد على ترسيم نهائي للمنطقة الاقتصادية الخالصة بين البلدين، بما يسهّل عمليات الاستكشاف في المناطق البحرية المتجاورة، سواء عبر عقود مستقلة أو مشاريع مستقبلية مشتركة. وتجدر الإشارة إلى أن سوريا تبقى الجار البحري الوحيد الذي لم ينجز لبنان ترسيم حدوده معه حتى اليوم.

مضمون الاتفاق وأبعاده الاقتصادية
على المستوى التقني، يقوم الاتفاق على رسم خط واضح يفصل بين المنطقتين الاقتصاديتين اللبنانية والقبرصية، ما يساعد على تجنّب التداخل في الامتيازات البحرية ويُقلّل من المخاطر القانونية التي تواجهها شركات التنقيب.
اقتصاديًا، تأمل بيروت أن يُترجم تثبيت الحدود إلى فرصة للاستثمار بدل النزاع، خصوصًا في ظل الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ عام 2019. ويعوَّل على أي اكتشافات مستقبلية للغاز ليكون لها دور في تخفيف حدّة الأزمة.
أما قبرص، التي سبق أن أعلنت اكتشافات غازية ضخمة في مياهها، فترى أن الاتفاق مع لبنان يندرج ضمن شبكة إقليمية أوسع لتأمين مصادر بديلة للغاز نحو أوروبا في ظل المتغيرات العالمية.
الموقف التركي: رفض حاد واتّهام بتجاهل القبارصة الأتراك
لم يتأخر الرد التركي على توقيع الاتفاق. ففي اليوم التالي، وصفت وزارة الخارجية التركية الاتفاق بأنه «غير مقبول» لأنه «يتجاهل حقوق القبارصة الأتراك». واعتبرت أن قبرص الرومية «لا تمثّل الجزيرة كاملة» ولا تملك الحق في توقيع اتفاقات من جانب واحد.

وقال المتحدث باسم الخارجية التركية أونجو كتشالي إن الاتفاق «يتجاهل حقوق القبارصة الأتراك»، مؤكدًا أن الإدارة القبرصية الرومية «لا تمثل الجزيرة بأكملها» وأنها «لا تملك صلاحية اتخاذ خطوات أحادية باسم القبارصة الأتراك».
تركيا، التي لا تعترف إلا بجمهورية شمال قبرص التركية، تؤكد أن القبارصة الأتراك «شركاء متساوون» في السيادة والموارد، بما فيها الثروات البحرية. كما وجّهت أنقرة انتقادات للاتفاق من زاوية لبنانية، معتبرة أن لبنان قد يكون متضررًا في بعض النقاط الحدودية. وأبدت تركيا استعدادها للتعاون مع بيروت إذا رغبت بمراجعة أو إعادة التفاوض.
سياق أوسع: نزاع قبرص وتقاطع ملفات شرق المتوسط
لا يمكن فصل الموقف التركي عن النزاع القبرصي الممتد منذ عام 1974، حين أدّت عملية عسكرية تركية إلى تقسيم الجزيرة عقب انقلاب مدعوم من اليونان. ومنذ ذلك الحين، شهد النزاع جولات تفاوضية عدة لم تصل إلى حل نهائي.
مع اكتشافات الغاز خلال العقدين الأخيرين، أصبح شرق المتوسط ساحة تنافس إقليمي. ويمكن تقسيم المشهد إلى محورين رئيسيين:
• محور يضم اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر بدعم أوروبي،
• ومحور تقوده تركيا وترى أن الاتفاقات الثنائية في المنطقة تستبعدها من معادلة الطاقة.
من هنا، تنظر أنقرة إلى أي اتفاق جديد بين قبرص وأي دولة ساحلية، مثل لبنان أو مصر، على أنه يصب في خانة تعزيز الموقف القبرصي-اليوناني ولو بشكل غير مباشر.
موقع لبنان بين الضغوط الإقليمية وحاجته إلى الاستثمار
لا يمر الاتفاق من دون نقاش داخل لبنان. فبينما تعتبره الحكومة خطوة ضرورية لاستكمال الترسيم وفتح الباب أمام الاستثمارات، يحذّر بعض الخبراء من احتمال خسارة مساحة بحرية أو الوقوع في ضغوط سياسية إضافية.
ومع ذلك، تبدو حسابات بيروت محكومة بثلاثة عوامل رئيسية:
1. الحاجة الاقتصادية الملحّة لأي فرصة استثمارية في مجال الطاقة.
2. الرغبة في إنهاء ملفات الحدود البحرية مع الدول المحيطة، بعد إنجاز اتفاق 2022 مع إسرائيل.
3. محاولة تجنّب الاصطفاف الإقليمي الحاد والحفاظ على توازن في العلاقات مع تركيا من جهة، ومع قبرص والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
بهذا المعنى، يتحرك لبنان ضمن هامش ضيق. فهو مضطر لاتخاذ خطوات عملية في ملف الطاقة، لكنه لا يريد خسارة أي شريك محتمل أو خلق خصومة جديدة مع لاعب إقليمي بحجم تركيا.

اتفاق ضروري… ضمن معادلة دقيقة
يشكّل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص لعام 2025 نهاية لمسار طويل من التعليق، وبداية محتملة لمسار جديد في التعاون بمجال الطاقة. لكنه، في الوقت نفسه، يضيف حلقة جديدة إلى سلسلة الخلافات حول خريطة شرق المتوسط وحقوق الاستغلال البحري.
ويبقى السؤال: هل سيتمكن لبنان من ترجمة الاتفاق إلى مكاسب اقتصادية حقيقية؟ أم أن التعقيدات الإقليمية والاعتراض التركي وصعوبات الداخل ستجعل الطريق نحو الاستقرار البحري طويلًا ومتعرّجًا؟





