صراع العروش في فنزويلا قراصنة جدد لإعادة هندسة الكاريبي
لنفط و البوليفارية: معركة السيطرة على الكاريبي و أكبر احتياطي في العالم

بقلم : سيف الدين رحماني
استنفار أمني كبير بين الأمريكيتين. و ملامح لتدخل عسكري وشيك.
هل ستبدأ واشنطن فصلاً جديداً من فصول الإطاحة بمادورو كما فعلت مع نورييغا في بنما ؟
واشنطن وكراكاس “صراع جيواستراتيجي قديم و محاولة لإعادة هندسة جديدة لجوار جيبوبوليتيكي مشحون”
لا يمكن لأي متابع لكرونولوجيا الأحداث و مواكب للوقائع السياسية الجارية اليوم أن تنطلي عليه أكذوبة واشنطن، تلك الأسطوانة المملة التي يرددها ترامب في كل طلة إعلامية…بخصوص فنزويلا … و ترّهات سياسية من قبيل “سنقضي على كارتيلات المخدرات في فنزويلا…و سننظف شوارع أمريكا من المخدرات و سنقطع الطرق البحرية التي توصل المهلكات إلى بلدنا العفيف”.
و يا عجيبة الدهر إذا كان المتابع يعلم أن ترامب كان يتعاطى المخدر الأبيض بشراهة في نوادي الليل و بياض الحضرة في ميامي و لاس فيغاس…فانظروا من يتكلم.
و لا غرابة إذا علمنا أن الراعي الرسمي للأفيون في العالم في مطلع الألفية الثانية كان الولايات المتحدة الأمريكية. وطوال فترتها التي قضتها في أفغانستان غازية، (الغزو الذي جلب الحرب والفقر والفساد) كانت مزارع الافغان تنتج مايقرب من 95% من الخشخاش المنوم في العالم. ثم يصدر إلى كل الأصقاع و أكبر النسب طبعا من حظ ولايات العم سام المتحدة.
فانظر و تمعن …عفة ترامب.
و إذا سألت عن أي دولة تتصدر إنتاج الأفيون في العالم حاليًا؟ تجد أنها بورما. فوفقًا لتقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة عام 2023، أصبحت بورما أكبر منتج عالمي للخشخاش المنوم ، وهذا النبات هو الذي يُستخرج منه اللاتكس، والذي يُحوَّل بعد سلسلة من العمليات إلى هيروين، و أغلبه يتوجه إلى أمريكا، فأين ترامب من هذا الجانب من الأرض …؟ على الأرجح ليس من اهتماماته التوسعية الاستراتيجية.
و للعلم لقد تجاوز إنتاج بورما إنتاج دولةٍ كانت لعقودٍ تُسجل الرقم القياسي في زراعة الخشخاش المنوم، ألا وهي “أفغانستان” .
و من المفارقات، أنه في السنوات الأخيرة، منذ عودة طالبان إلى السلطة، انخفض إنتاج الأفيون في أفغانستان بشكل حاد. لا يزال يُنتَج في، ولكن بوتيرة أقل بكثير منذ مغادرة أمريكا أفغانستان وأعادت طالبان حظر زراعته في عام 2022.
أما المخدر الذي بلغ خطره أضعافا مضاعفة من الهيروين و فعل الأفاعيل بالفرد الأمريكي فجعله يمشي في الشوارع و كأنه زومبي محنط، ليس هو الأفيون الذي يأتي من بورما و أفغانستان ولا الكوكايين الذي يأتي من كولومبيا وبوليفيا، بل هو الفنتالين الذي يصنع في المكسيك و يهرب حدوديا عبرها إلى المجتمع الأمريكي و لا يرى أثر مكافحته في الداخل الأمريكي، كما عرج الرئيس الكولومبي في مقابلة تلفزيونة. فإن كان ترامب و أزلامه حسان النية و عازمون على تطهير أمريكا من المخدرات فأول دولة معنية بمحاربة المنظمات الاجرامية للمخدرات هي المكسيك و الأقربون أولى ثم الأبعدون.
و منه ترامب حجته داحضة و ادعاءاته ادعاءات واهية فيما يتعلق بالمخدرات، و الكارتيلات في فنزويلا و لأن المسألة أكبر من ذلك وجب أن نغوص في لب خيالات ترامب و من يسول له من وراءه قلب نظام الحكم في كاراكاس و اسقاط نيكولاس مادورو حامي الحياض البوليفارية.
و للعلم، ليست فنزويلا فرطا في فصول المؤامرات و الدسائس و محاولات واشنطن العديدة لاسقاط أنظمة حكم عارضتها و ناكفتها العداء بل و أشهرت سيف التمرد على قراراتها و سياساتها الخارجية، كان منهم من قضى نحبه من هذه الأنظمة و منهم من هو منتظر إلى حد الساعة.
فأمريكا الإمبريالية حاولت قلب أنظمة حكم في 127 دولة، وحاولت اغتيال 54 زعيمًا وطنيًا في دول العالم الثالث، وأشعلت حروبًا أهلية في 85 دولة، كما أطاحت منذ 1945 بـ 40 حكومة وطنية و وأدت أكثر من 30 ثورة شعبية .
و من أشهرها على سبيل الذكر لا الحصر:
- الإنقلاب على رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في 1945 لقيامه بتأميم شركات النفط في إيران بمساهمة بريطانية.
- الانقلاب في إندونيسيا 1965م بقيادة سوهارتو، شاركت فيه وقدمت للمخابرات الإندونيسية قوائم بأسماء الشيوعيين والمعارضين، مما أدى إلى مقتل أكثر من مليون إنسان، كثير منهم مسلمون في جاوة وسومطرة.
- دعمت أمريكا الإبادة الجماعية في رواندا عبر دعم نظام الهوتو عسكريًا واستخباراتيًا قبل المذبحة، ثم امتنعت عن التدخل أثناء قتل 800 ألف إنسان خلال 100 يوم.
ولأن معرض الحديث هنا عن فنزويلا فجدير أن نعرف ما حدث في جوارها الجيوبوليتيكي في أمريكا اللاتينية و لابد من ذكر غواتيمالا وعملية الإطاحة برئيسها جاكوبو أربينز وذلك لمجرد أنه خرج عن طوع البيت الأبيض و أراد أحداث الثورة الزراعية و إصلاحات واسعة.
و نفس الشئ حدث مع جواو جولارت في البرازيل وكذلك الرئيس الشهيد سلفادور ألييندي و الرئيس السابق للدومينيكان جوان بوش.
أمريكا قادت ما يُعرف بـ عملية “كوندور” في أمريكا اللاتينية خلال السبعينيات والثمانينيات، وهو تحالف استخباراتي هدفه اغتيال واعتقال المعارضين لسياساتها في التشيلي والأرجنتين والأوروغواي والبرازيل، وأسفرت العملية عن مقتل واختفاء ما لا يقل عن 60 ألف إنسان.
- أسقطت واشنطن نظام الحكم في بنما و أطاحت برأس نظامه آنذاك مانويل نورييغا في ثمانينات القرن الماضي كان نورييغا يعدّ العميل الأول للمخابرات الأمريكية في بنما، و لأنه تمرد على قراراتها و خرج عن السيطرة تطيح به و لايرى مصير مادورو بأبعد من مصير جاره البنمي.
فمانويل نورييغا ألصقت له تهم من قبيل حفنات التهم الموجهة لنيكولاس مادورو الآن، و كلها حجج واهية و ذرائع لاغية تماما كأسلحة الدمار الشامل التي تذرع بها بوش الابن في العراق و غيرها كالتي أذيعت قبل الحملة العسكرية آنذاك. و التي كانت وراءها مخططات جيوبوليتيكية إستراتيجية كشفت بعد حين.
الشرارة التي أشعلها ترامب ليست وليدة اللحظة فالصراع الأمريكي–الفنزويلي قديم قدم الثورة البوليفارية و دائما ما كان النفط هو سببها الرئيس ومنه فالصراع ليس سياسيًا أو أيديولوجيًا فحسب، بل مبني على بنية التأثير و القوة التي ينتجها النفط داخل الدولة الفنزويلية، وكيف تؤثر هذه البنية في مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية.
و باعتبارها دولة ريعية فالسياسة في فنزويلا مرتبطة بشكل جوهري بتقلبات أسعار النفط وإدارة عوائده.
إذا ما ألقينا نظرة على أكبر عشر دول من حيث احتياطيات النفط العالمية نجد ان فنزويلا تتربع على عرش الاحتياطات العشر الكبرى في العالم:
“فنزويلا، المملكة العربية السعودية، إيران، كندا، العراق، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، روسيا، الولايات المتحدة، ليبيا.”
نجد أن من بين هذه الدول العشر، أربع دول صديقة للولايات المتحدة أوما يُسمى بالكتلة الغربية، الحدائق الخلفية لأمريكا هذه الدول هي المملكة العربية السعودية، وكندا (وهي أيضًا عضو في حلف الناتو)، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، لا أحد يجرؤ على المساس بهذه الدول، نظرًا لحجم أعمالها و ارتباطها مع الولايات المتحدة وحلفائها وشركات النفط الغربية.

فنزويلا تخضع للعقوبات منذ سنوات لسبب بسيط : تشافيز أولاً، ثم مادورو و على مدى عقود فشلت واشنطن ان تجعل منهما نماذج لحكومات مطيعة خاضعة تأتمر بأمرها و تنتهي به و لأنهما ـ هذان الزعيمان ـ تجنبا التعامل مع الكتلة الغربية، وخاصةً مع شركات النفط الأمريكية التي كانت مسيطرة قبل التأميم chevron, exxon, mobil. علاوة على ذلك، رفضا في كثير من الأحيان المساعدات الشحيحة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، باعتبارهما مؤسستان ماليتان تخدمان الإمبريالية الأمريكية. فلم يرهنا رقبة الفنزوليين للمارد الامريكي و لا لمؤسساته الدولية.
يتجلى لنا من طرف خفي أن نوايا واشنطن مغايرة تماما لادعاءات ترامب بخصوص المنظمات الاجرامية و كارتيلات المخدرات و مما زاد النهار وضوحا أن واشنطن عسكرت ترسانتها العسكرية البحرية قبالة سواحل فنزويلا من جهة tobago and trenidad في الأسابيع الأخيرة، من التصعيد الإعلامي مما يشي بأن طبخة تطبخ في حوض الكاريبي ترسانة حربية تتقدمها حاملة الطائرات النووية “جيرالد فورد”، التي وصلت إلى منطقة البحر الكاريبي، مصحوبة بالسفن الحربية (مدمرات، طرادات)، والغواصات الهجومية لمراقبة السواحل وحماية خطوط الإمداد.
و أعداد هائلة من الطائرات المقاتلة المتطورة، من طراز F/A-18E، وقاذفة استراتيجية من طراز B-52، وطائرات الاستطلاع والقيادة والتحكم، وطائرات النقل الاستراتيجي لنقل القوات والمعدات. من سلاح الجو كما اوردت شبكة CNN لبيانات رحلات مفتوحة المصدر.
أعلن الجيش الأميركي عن هذه العملية العسكرية و اطلق عليها اسم “الرمح الجنوبي” و في الاثناء هاجمت الولايات المتحدة سفنًا فنزويلية عديدة قبالة سواحل فنزويلا بالصواريخ والطائرات المسيرة. قُتل حوالي 50 شخصًا، وأبلغونا أنهم تجار مخدرات. هل قُدِّم دليل؟ لا يوجد!
أما مادورو فقد طلب من دول منظمة أوبك (منظمة الدول المصدرة للنفط) مواجهة التهديدات الأميركية والمساعدة في حماية احتياطيات النفط الفنزويلية من العدوان الأميركي.
وقال: “آمل أن أعتمد على جهودكم للمساعدة في وقف هذا العدوان، الذي يزداد قوة ويهدد بشكل خطير توازن سوق الطاقة الدولية، سواء بالنسبة للدول المنتجة أو المستهلكة”، كما أدان “استخدام القوة العسكرية المميتة ضد أراضي البلاد وسكانها ومؤسساتها”.
أعلن ترامب عن قرب بدء عمليات عسكرية في فنزويلا، ثم صرّح بأنه “يجب إغلاق المجال الجوي فوق فنزويلا” لأننا “حذرناهم من إرسال السموم إلى بلادنا”. و طلب من مادورو الاستقالة و التنحي عن الحكم.
ترامب يركز دائما في خطابته عن فنزويلا بشكل أساسي على مكافحة تهريب المخدرات. الآن يتوفر لنا المزيد من المعلومات لفهم العبة التي ستجرى في الكاريبي.
بقي 5 دول من العشر المناوئة لواشنطن : فنزويلا، إيران، العراق، روسيا، وليبيا.
أما ليبيا فقُصفت و حيدت من المشهد، وزجرت إيران ، وأخضعت العراق إذ لقي العراق وليبيا المصير نفسه لسنوات طويلة قبل أن يصل إليهما تصدير الديمقراطية، حاملاً معه مجازر واغتيالات لرؤساء دول، وانتشار الفقر و الفساد
و الآن جاء دور فنزويلا اذ تخضع فنزويلا لعقوبات اقتصادية قاسية، منذ الحقبة التشافية. و لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا الآن، ألم تكن فنزويلا عدوا لدودا لأمريكا منذ حقبة سيمون بوليفار
بوليفار الذي كان متخوفًا من الولايات المتحدة بشدة. كان دائما يرى أن واشنطن تريد التوسع على حساب أمريكا اللاتينية
في رسائله الأخيرة، كتب أن الولايات المتحدة تمتلك نزعة توسعية ستجعلها “تبتلع القارة” إذا لم يَحْذَر منها جيرانها.
و قال عبارته الشهيرة:
“الولايات المتحدة تبدو مقدَّرة بأن تُغرِق الأمريكتين بالبؤس تحت اسم الحرية.”
مبدأ مونرو و نظرية الإحتواء.
عندما أعلنت واشنطن عن “مبدأ مونرو” (1823) “أمريكا للأمريكيين”، اعتبر بوليفار أن:
المبدأ قد توظفه واشنطن لاحقًا للهيمنة على أمريكا الجنوبية.
وهذا فعلاً ما حدث لاحقًا في القرن 19 و20، مما جعل رؤية بوليفار “نبوءة” تاريخية.
جيوسياسيا يبدو مبدأ مونرو غطاءا حمائيا و لكن رغم صياغته الدفاعية، إلا أنه كان في الواقع إعلانًا أمريكيًا بإنشاء مجال نفوذ خاص بها.
و هذا الذي حدث لاحقًا عن التدخل في كوبا ثم احتلال بورتوريكو و الانقلابات في أمريكا الوسطى
ثم هيمنة واشنطن على بنما، هايتي، جمهورية الدومينيكان…. كله بدعوى تفسير روزفلت (1904) “العصا الغليظة” عندما قال “للولايات المتحدة الحق في التدخل في أمريكا اللاتينية لمنع الفوضى.”
لعنة الريع …
معروف عن فنزويلا أنها دولة ريعية و خصائص الدولة الريعية :
انها تعتمد على عوائد النفط فقط وليس الضرائب. و منه اقتصاد اعرج يخلق نظاما شديد المركزية في توزيع الموارد. و تصبح السلطة السياسية فيه مرتبطة مباشرة بالتحكم بالريع. فيؤدي ذالك لــ استقطاب داخلي حاد (كما في عهد تشافيز ثم مادورو). و بطبيعة الحال ينعكس ذلك على السياسة الخارجية. فالدولة التي يعتمد بقاؤها على النفط تميل إلى:
استخدام أسعار النفط المرتفعة لتعزيز استقلاليتها عن القوى العظمى.
فتقوم بتوظيف عوائد النفط لصياغة مشاريع سياسية إقليمية (مثل مشروع تشافيز البوليفاري).
فنزويلا كانت لعقود مورّدًا مستقرًا وقريبًا للطاقة. لانها تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم. فتقلباتها السياسية تشكّل تهديدًا للأمن الطاقي في العالم و هنا نخص بالذكر أمن الطاقة الامريكي.

كيف أصبح النفط سببًا للتصادم السياسي؟
مرحلة ما قبل تشافيز:
بدأت بوادر التوتر في العلاقات بين واشنطن و كراكاس تظهر منذ قيام فنزويلا بتأميم شركات النفط وتكوين سلطة وطنية مستقلة. تأميم الشركة الوطنية الفنزويلية للنفط (PDVSA) عام 1976.
و ذالك بسبب صعود القومية الاقتصادية في السبعينيات و قد أدى ذالك إلى تحول دراماتيكي غيّر علاقة كاراكاس مع واشنطن جذريًا. فبعد أن كانت الشركات الأميركية (مثل Exxon, Chevron Mobil) تتحكم في قطاع النفط، أصبحت الدولة الفنزويلية هي اللاعب الرئيس.
و مع صعود تشافيز إلى الحكم 1999 قام بإرساء دعائم التأميم للقطاع النفطي. فطرد كوادر الشركة النفطية PDVSA الموالية للمعارضة و المتحالفة مع الغرب. فحولها من شركة «تقنية» مستقلة إلى ذراع مالية للثورة البوليفارية.
ثم قام بتوجيه النفط سياسيًا نحو الصين وكوبا فاستخدم أدوات السوق العالمية الاستراتيجية و هي النفط، وسيلة للضغط بدلاً من التحكم المباشر. و غير بذالك الوجهة نحو الشرق الآسيوي فأصبحت فنزويلا تدريجيا ميالة للمعسكر الشيوعي.
علاوة على أن شافيز في محطات كثيرة بتوجهاته اليسارية المناوئة للغرب، كان ينتقد الدور الأمريكي في العالم. و عليه تحوّل
النفط من سلعة اقتصادية من رابط يتعاون الطرفان من خلاله إلى أداة صراع سياسي.
فما كان رد الفعل الأميركي إلى أن أذعن بالقبول الواقعي بالتأميم، مع السعي المستمر للحفاظ على نفوذ غير مباشر. فحافظت واشنطن على علاقة سطحية بسبب الاعتماد المتبادل (نفط مقابل سوق).
و لأن الولايات المتحدة كانت هي المستورد الأكبر للنفط الفنزويلي. هذا جعل واشنطن تعتمد على فنزويلا كمصدر قريب وآمن نسبيًا، إذ كانت كاراكاس تهندس بطريقة مباشرة إستراتيجية الأمن الطاقي في الكاريبي و منه أمن أمريكا الطاقي.
فكان على الولايات المتحدة المحافظة دائمًا على التوازن بين حاجتها للطاقة ورغبتها في ضبط السلوك السياسي ل«الدولة المنتجة».
كيف هدد النفط الفنزويلي مصالح واشنطن الجيوستراتيجية في الكاريبي…؟
شافيز استخدم النفط كأداة صريحة في تعزيز مشروعه السياسي داخليًا وبديلًا للنفوذ الأميركي خارجيًا. ومن أبرز سمات التحول حينها ان قام :
- بتحويل PDVSA الشركة النفطية التي أصبحت رمزا للمشروع البوليفاري من شركة نفطية مستقلة إلى أداة نفوذ في أمريكا اللاتينية.
- استخدام العائدات النفطية لتمويل برامج اجتماعية واسعة (Misiones).
- توظيف النفط كأداة دبلوماسية لدعم دول الكاريبي من خلال مشروع PetroCaribe
- أسعار تفضيلية لحلفاء مثل كوبا. و فتح المجال الحيوي لدخول الصين على الطريق.
- خطاب تحدٍ ضد الولايات المتحدة في المحافل الدولية.
- فتح المجال في الاستثمار و العمالة و الأمن لكل من روسيا، الصين و إيران.
فما كانت من السياسة الأمريكية بعد تشافيز إلى أن تكيفت مع التغيرات الحيوية التي قامت بها كاراكاس:
ثلاث ركائز اعتمدت عليها واشنطن:
- الحفاظ على تدفقات النفط.
- احتواء النفوذ الجيوسياسي الفنزويلي (خاصة التحالفات مع كوبا، إيران، روسيا، الصين)
- دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان (غالبًا كغطاء سياسي في الخطاب)
واشنطن ترى أن نموذج الحكم الفنزويلي (التحكم المركزي بالنفط + سياسات خارجية مضادة لواشنطن) يشكل تهديدًا مباشرًا لمصالح الطاقة والاستقرار الإقليمي.
و لكن أدوات واشنطن الاحتوائية لم تؤت أكلها منذ عهد تشافيز فغيرت أدوات التأثير إلى العقوبات فبدأت:
أ. بدعم المعارضة والانقلاب القصير الذي حدث في 2002. (الذي فشل بعد 48 ساعة).
وثّقت دراسات عديدة أن الولايات المتحدة دعمت بشكل مباشر أو غير مباشر:
النقابات المهنية المعادية لتشافيز و كذلك منظمات المجتمع المدني المعارضة.
ب. العقوبات المالية والاقتصادية
بدأت العقوبات منذ عهد أوباما، وتوسعت بشكل كبير في عهد ترامب:
- تجميد أصول PDVSA في الولايات المتحدة.
- منع تصدير المواد المخففة المستخدمة لتحويل النفط الفنزويلي الثقيل.
- تجريم التعامل مع النفط الفنزويلي.
- الاعتراف بخوان غوايدو كـ«رئيس مؤقت» لإعادة توجيه عائدات النفط.
فكانت نتيجة العقوبات مؤثرة جدا حيث انهار إنتاج النفط من 3.2 مليون برميل يوميًا (1998) إلى ما يقارب 600 ألف بعد 2020. فحدثت أزمة اقتصادية غير مسبوقة داخل البلاد.
و اتجهت بعدها كاراكاس نحو تحالفات مع الصين، روسيا، إيران.
و اتضح بعدها إنه كلما زادت سيطرة الدولة الفنزويلية على النفط، زادت حساسية الولايات المتحدة وتوتر العلاقة.
لماذا النفط كسبب بنيوي للنزاع ؟
لطالما اعتبرت الولايات المتحدة الامريكية النفط كعامل حيوي للسيطرة و في نفس الوقت تهديد استراتيجي لمصالحها.
إذ ترى أن:
فنزويلا تملك أكبر احتياطي نفطي مثبت في العالم.
علاوة على موقعها الجغرافي الذي يجعلها جزءًا من الأمن الطاقي القومي الأميركي.
و من ثم توجهها نحو خصوم واشنطن (روسيا، الصين، إيران) كل ذلك يهدد السيطرة الأميركية على الطاقة في النصف الغربي من العالم. و لأن فنزويلا أبرمت اتفاقات نفطية مع روسيا (Rosneft)، الصين (CNPC)، وإيران، زاد ذلك من حساسية الجوار الجيوبوليتيكي في الكاريبي، جعل واشنطن تنظر إلى هذا النزاع كصراع على مستقبل الطاقة في المنطقة، وليس مجرد خلاف سياسي مع نظام يساري يقوده شيوعي متزلف للشرق و معاد للغرب. أتقن في وقت ما تحريك حجر على رقعة الجيوبوليتيكا المسيطرة عليها واشنطن، فأتلف بها حسابات البيت الأبيض المرحلية.
فمن منظور سائق الباص الفنزويلي نيكولاس مادورو، أن النفط ورقة إستراتيجية يستطيع أن يكون بها “نظاما مضادا للهيمنة”
و هو أداة لتحرير القرار الوطني من تبعية واشنطن.
فقام بتمويل المشاريع الاجتماعية و اتخدها وسيلة لبناء شرعية داخلية ضد النخب التقليدية.
و دخل في تحالفات دولية (بريكس، روسيا، الصين، إيران) و اعتبرها جزءا من استراتيجية “التعددية القطبية” التي تبناها تشافيز.
وبالتالي، أصبح النفط لبّ مشروع “السيادة الوطنية” الفنزويلية.
و مع الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في أسواق الطاقة، أصبح النفط الفنزويلي:
موردًا استراتيجيًا يمكن أن يساهم في تعويض نقص الإمدادات.
فأمسى حلقة مهمة في قلب التفاوض الأمريكي–الفنزويلي ما بعد 2023.
و أضحى في الوقت نفسه ورقة ضغط أميركية للحصول على تنازلات سياسية من حكومة مادورو. الذي أبدى عن صلابة في مواقفه طوال فصول الصراع. و منه عاملًا يعيد واشنطن تدريجيًا إلى سياسة «الواقعية البراغماتية» بدل العقوبات الشاملة.
و بسبب هذه الواقعية البراغماتية شهدت السنوات الأخيرة خطوات أمريكية لتخفيف بعض العقوبات، مقابل:
التزام فنزويلا بإجراء انتخابات «أكثر شفافية».
زيادة وصول الشركات الأميركية مثل Chevron إلى السوق الفنزويلية.
و تخفيف التوجهات نحو المعسكر الشرقي، روسيا الصين، إيران.
ثم بعد التوتر المشحون، عرض الرئيس الامريكي ترامب – على عادة أمريكا – شخصيًا على مادورو ضمان مرور آمن و توفير إقامة آمنة له ولعائلته مقابل استقالته الفورية
لكن مادورو أدار ظهره لكل هذه التوصيات و العروض و ضرب بها عرض الحائط. ثم توشح سيف الثورة البوليفارية عازما على المقاومة و التصدي لأي اعتداء يهدد بلده. هنا لم تجد واشنطن طريقة أخرى غير التدخل العسكري. كالذي قامت به في بنما في ثمانينات القرن الماضي نجز عنه الإطاحة بمانويل نورييغا. فعسكرة هذا الحجم الهائل من الترسانة الحربية في الكاريبي و قبالة السواحل الفنزويلية يشي بأن تدخلا عسكريا آخر و فصلا من فصول واشنطن في الإطاحة بنظام حكم دولة سيادية مستقلة، فعلا بدأت بوادره تتكشف و سيتم عن قريب ربما بنسبة 95%.
وعليه فإن فهم النزاع الأميركي–الفنزويلي من دون وضع النفط في مركز التحليل يُعدّ ضربًا من التجاهل للواقع البنيوي. فالعلاقة بين البلدين ليست مجرد خلاف أيديولوجي أو خلاف حول الديمقراطية أو خلاف حول حقوق الإنسان فحسب، بل هي معركة على السيطرة على أكبر احتياطي نفطي في العالم، وعلى الاتجاه الجيوسياسي لدولة تقع في العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة.
من هنا، يتضح أن النفط ليس خلفية للنزاع، بل هو محركه الأساسي، وأن الدولة الفنزويلية بُنيت وتطورت وتعرضت للضغط الدولي بناءً على كيفية إدارتها لهذه الثروة الهائلة.
و لكن حتى لو تغيّر الرئيس مادورو و جاء رئيس جديد مستقبلاً. فإن جوهر الصراع سيبقى نفسه، طالما أن الدولة هي من تسيطر على النفط وتستخدمه لبناء سياسة مستقلة عن واشنطن.

سيف الدين رحماني.
كاتب صحفي، باحث أكاديمي.
متخصص في الشؤون الإستراتيجية و العلاقات الدولية.



