تقارير و تحقيقات

سوريا الجديدة تفتح ملف أملاك اليهود المصادَرة: بين استعادة الحقوق ورسائل السياسة الخارجية

محمد سمير طحان – خاص مراسلين

أول ترخيص لمنظمة تُعنى بالتراث اليهودي والممتلكات المصادَرة
مكون سوري تلاشى تقريباً… والسجل العقاري يعود إلى الواجهة
زيارة وفود يهودية وكنس مدمَّرة… من جوبر إلى حلب
السلطة الانتقالية بين اختبار العدالة الانتقالية وحساسية الصراع مع إسرائيلو
حمرا لـ“مراسلين”: نريد إحياء الحياة اليهودية في سوريا لا استيراد واقع جديد

أول ترخيص لمنظمة يهودية تعنى بالممتلكات


أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السورية الانتقالية الأربعاء 10 ديسمبر عن منح ترخيص رسمي لـ“منظمة التراث السوري اليهودي”، في خطوة وُصفت بأنها الأولى من نوعها تجاه ملف الأملاك والتراث العائدين لليهود من أصول سورية.
الوزارة قدّمت الترخيص خلال لقاء وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل هند قبوات في مكتبها مع الحاخام هنري يوسف حمرا، الذي يتولى رئاسة المنظمة، في سياق خطاب رسمي يؤكد أن الدولة “لا تميّز بين دين وآخر” بحسب تصريح صحفي للوزيرة أثناء اللقاء ، وأنها منفتحة على مكوّناتها كافة في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد.
بحسب ما أعلنته المنظمة ومسؤولون حكوميون، ستتولّى “التراث السوري اليهودي” إعداد سجلّ لحصر الممتلكات اليهودية التي صودرت أو جرى الاستيلاء عليها خلال عهدي حافظ وبشار الأسد، بما يشمل الكنس والمقابر والمدارس الدينية والعقارات السكنية والتجارية في دمشق وحلب والقامشلي ومدن أخرى.
المشروع يتجاوز البعد الرمزي، إذ يُقدَّم أيضاً بوصفه مدخلاً لإعادة ترميم بعض المعالم الدينية التاريخية وفتح الباب أمام تسويات قانونية ومالية مع ورثة المالكين الأصليين أو ممثليهم.

الحاخام هنري حمرا لشبكة “مراسلين”


في حديث خاص مع شبكة “مراسلين”، يصف الحاخام هنري يوسف حمرا، رئيس “جمعية التراث اليهودي السوري”، لحظة انطلاق عمل المنظمة بأنها “محاولة متأخرة لكنها ضرورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الذاكرة اليهودية في سوريا”.
ويقول حمرا إن الزيارة الأولى التي قام بها مع والده إلى دمشق مطلع العام كشفت “حجم الخراب الذي أصاب الكنس والمقابر والمواقع الدينية اليهودية”، مشيراً إلى أن فريقه وثّق مبانٍ دينية يعود تاريخ بعضها إلى ستة أو سبعة قرون، إضافة إلى موقع ديني يعتبره كثيرون من أقدم الكنس في المنطقة.
ويؤكد أن الهدف الأول للمنظمة هو “إعادة ترميم هذه الكنس والمقابر، وإعادتها إلى الحياة، لكي يتمكن اليهود من أصول سورية من زيارتها والصلاة فيها، ولكي تبقى جزءاً من المشهد السوري لا صفحة مطوية منه”.
ويضيف حمرا أن عمل الجمعية “لن يقتصر على دمشق”، بل يشمل “كل المحافظات السورية التي كان فيها حضور يهودي”، لافتاً إلى أن الفريق يسعى للتواصل مع أبناء الجالية في الخارج من أجل تشجيعهم على زيارة سوريا والمشاركة في تمويل مشاريع الترميم والاستثمار.
ويشدّد حمرا على أنه يسعى إلى إيصال رسالة مفادها أن “سوريا اليوم ليست الصورة النمطية عن بلد مغلق وخطِر”، بل بلد “يحاول أن ينفتح من جديد على العالم وعلى كل مكوّناته”، معتبراً أن مساهمة اليهود السوريين في إعادة البناء “جزء من ردّ الجميل للأرض التي خرجوا منها”.

خلفية تاريخية: من مكون وازن إلى حضور رمزي تاريخياً


تعود جذور الوجود اليهودي في سوريا إلى العصور القديمة، وتواصل عبر الفتح العربي والعهدين المملوكي والعثماني، ثم تعزّز مع استقبال موجات من اليهود السفارديم بعد طردهم من إسبانيا أواخر القرن الخامس عشر.
في أواخر أربعينيات القرن الماضي، قُدّر عدد أفراد الجالية اليهودية في سوريا بنحو 30 ألف شخص توزّعوا بين دمشق وحلب والقامشلي، واحتلوا موقعاً مهماً في الاقتصاد والتجارة والحياة الحضرية.مع قيام دولة إسرائيل وتفجّر الصراع العربي الإسرائيلي، شهدت البلاد توترات واستهدافات طالت اليهود، من أبرزها أحداث العنف في حلب عام 1947، ما حفّز موجات هجرة متتالية باتجاه أوروبا والأمريكتين وإسرائيل.
في عهد حافظ الأسد، سُمح بممارسة الشعائر الدينية لليهود لكن فُرضت قيود شديدة على السفر إلى أن تم تخفيفها بداية التسعينيات، فغادرت غالبية من تبقّى من الجالية، تاركةً وراءها شبكة واسعة من الأملاك والعقارات والكنس والمقابر.مع مرور الزمن، انتقلت ملكية جزء كبير من هذه الأصول إلى الدولة أو أشخاص طبيعيين عبر قرارات مصادرة أو إجراءات إدارية وقانونية معقّدة، بينما تُركت مواقع أخرى للإهمال أو الدمار خلال سنوات الحرب.

وعند سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، كانت التقديرات تشير إلى بقاء عدد محدود جداً من اليهود داخل سوريا، في حين استقر معظم أبناء الجالية من أصول سورية في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأوروبا وإسرائيل.

زيارات ميدانية وكنس مدمّرة خلال عام 2025

تكثّفت زيارات وفود يهودية من أصول سورية إلى دمشق وحلب، ضمّت رجال دين وشخصيات اجتماعية واقتصادية، بعضها جاء برفقة الحاخام يوسف حمرا وابنه هنري.
هذه الوفود أدّت صلوات في كنيس الفرنج بحيّ اليهود في دمشق القديمة، وزارت مواقع دينية وتعليمية ظلت مغلقة لعقود، بينما جرى الحديث عن دخول وفود أخرى إلى كنيس ومدرسة يهودية في حلب لإعادة تقييم حالتهما الإنشائية.
المعلومات المتقاطعة التي حصلت عليها شبكة مراسلين من ناشطين ومصادر محلية تشير إلى أن عدداً من الكنس التاريخية في دمشق وريفها، وعلى رأسها كنيس جوبر المنسوب إلى تقليد ديني قديم، تعرّضت لأضرار جسيمة خلال سنوات الحرب، سواء نتيجة القصف أو الاستخدام العسكري أو أعمال النهب.
المنظمة الجديدة تتحدث عن كنس يعود تاريخها إلى ستة أو سبعة قرون، ومواقع دينية أخرى يُقدَّر عمرها بثلاثة آلاف عام، في حالة خراب شبه كامل، ما يستدعي جهود ترميم كبيرة وتمويلاً لا يتوافر داخل سوريا وحدها في الظروف الراهنة.البعد السياسي والعدالة الانتقاليةخطوة ترخيص “منظمة التراث السوري اليهودي” تأتي ضمن مسعى أوسع للسلطة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع لتقديم نفسها شريكاً مقبولاً دولياً، وقادراً على إدارة ملفات حساسة مثل حقوق الأقليات والعدالة الانتقالية وإعادة الإعمار.


في هذا الإطار، رُصدت لقاءات متكررة بين مسؤولين سوريين وأعضاء من الجالية اليهودية في الخارج، واستُخدم خطاب يؤكد انفتاح دمشق الجديدة على كل مَن يريد المساهمة في إعادة بناء البلاد، بغض النظر عن الخلفية الدينية أو القومية.في المقابل، يبقى الملف محاطاً بحساسية سياسية مضاعفة بسبب التوتر المستمر مع إسرائيل، التي تواصل عمليات عسكرية على الأراضي السورية وتحتفظ باحتلال مباشر لمناطق قرب الجولان، إلى جانب مناطق توسّع احتلالها بعد سقوط النظام السابق.
هذا الواقع يفرض على السلطة الانتقالية والمجتمع السوري تمييزاً دقيقاً بين الجالية اليهودية من أصول سورية في الشتات – التي تطالب باستعادة حقوقها أو الحفاظ على تراثها – وبين المواقف من سياسات الحكومة الإسرائيلية والصراع المفتوح في أكثر من جبهة.
على مستوى العدالة الانتقالية، يثير الملف أسئلة عن معيار التعامل مع كل ضحايا المصادرة والتهجير في العقود الماضية، من مختلف المكوّنات الدينية والقومية، وهل ستُفتح ملفات مماثلة لأملاك مهجّرين آخرين، أم سيظل الملف اليهودي حالة خاصة مرتبطة بحسابات خارجية وعلاقات دولية.
إجابات هذه الأسئلة ستشكّل اختباراً جدياً لصدقية خطاب المساواة و“اللا تمييز” الذي تتبناه السلطة الحالية، ولقدرتها على سنّ تشريعات واضحة وشفافة تعطي أولوية لحقوق أصحاب الملك الأصليين، مع مراعاة واقع مئات الأسر التي تسكن اليوم تلك البيوت منذ عقود.

Rita Abiad

صحفية وباحثة في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، مهتمة بتغطية الأخبار الرياضية وتحليلها بالإضافة الى خبرة في إدارة منصات التواصل الإجتماعي وانتاج محتوى تحريري بدقة عالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews