تقارير و تحقيقات

صحيفة إسبانية: العودة إلى الوطن ليست سهلة بعد الحرب.. لماذا يرفض العديد من السوريين الرجوع إلى سوريا؟

شادي الشامي – مراسلين

ترتدي منى محمود الخضر، البالغة من العمر 36 عاما، برقعا أسود لا يُظهر سوى عينيها البنيتين، وتستقل حافلة متجهة إلى سوريا برفقة ابنتها مايا، البالغة من العمر 13 عاما. أما طفلاها الآخران فيبقيان في عمّان، الأردن. يقول مروان (اسم مستعار)، الابن الثاني لمنى، والذي بلغ لتوه الثامنة عشرة من عمره: “أرغب بشدة في العودة، ولكن ليس الآن. ربما بعد عام أو عامين”. يودع الشاب والدته، متمنيا أن يجد عملا في الأردن، رغم أنه غير مصرح له بالعمل هناك.

ووفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يرغب 75% من السوريين المقيمين في الشرق الأوسط بالعودة إلى وطنهم يوما ما، لكن 18% فقط منهم يخططون للعودة خلال العام المقبل. أما الأغلبية، فهم مترددون، ويفضلون الانتظار في الوقت الراهن بدلا من العودة على المدى القريب لأسباب مختلفة، أهمها الوضع الاقتصادي والأمني ​​المتردي في سوريا.

بعد هزيمة بشار الأسد وفراره من البلاد، ظنّ ملايين السوريين أن عهدا جديدا قد بدأ وأنهم سيتمكنون أخيرا من إنهاء منفاهم. وتوضح هانا باتشيت، مديرة المجلس النرويجي للاجئين في الأردن: “حتى أن بعضهم توجه إلى الحدود في الثامن من ديسمبر”. ومنذ ديسمبر 2024، عاد 924,007 لاجئا من دول الشرق الأوسط إلى سوريا عقب وصول أحمد الشرع إلى السلطة. وقد عاد الكثيرون في الأشهر الأولى، مدفوعين بشوقهم لرؤية أحبائهم مجددا ورغبتهم في إنهاء منفاهم.

لكن الحماس الأولي لبعض السوريين خفت بعد بضعة أشهر حين أدركوا أن حالة انعدام الأمن وعدم الاستقرار الاقتصادي لن تتغير قريبا. فالعائدون من الأردن لا يعودون لأن الدولة السورية مستعدة لاستقبالهم بكرامة، بل لأن المنفى أصبح في كثير من الحالات لا يُطاق. تقول هانا: “كان هناك من يرغب بالعودة إلى دياره، وكانوا يائسين من المغادرة”. لكن الواقع الذي واجهه الكثيرون كان مختلفا تماما عن الصورة المثالية التي رسموها لأنفسهم على مر سنوات الانتظار.
بعد مرور عام على سقوط بشار الأسد، لا يزال الوضع في سوريا غير مستقر، وقد تسببت الأعمال العدائية الأخيرة في مزيد من الأضرار للبنية التحتية الهشة أصلا، وزادت من حدة الاحتياجات الإنسانية، بحسب تحذيرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

بلد لا يزال في حالة خراب

سافر زوج منى إلى مدينة حماة السورية بحثا عن شقة للإيجار قبل وصول بقية أفراد الأسرة، إذ خلّفت الحرب منزلهم في حالة خراب، وارتفعت الإيجارات بشكل جنوني بسبب ندرة العقارات. تضررت معظم المنازل بشظايا القنابل، وكذلك المستشفيات والمدارس.
توضح منى قائلة: “أخبرني زوجي أنه لا يوجد ماء، ولا كهرباء، ولا إنترنت، ولا مواصلات. الشوارع خالية. لا توجد خدمات تنظيف. عاد الأسبوع الماضي وندم على عودته”. أولئك الذين سافروا إلى سوريا بعد أكثر من عقد من المنفى وجدوا مشهدا قاحلا، بمستوى من الدمار والمعاناة يفوق توقعاتهم بكثير.
فقد زوجها وظيفته في الأردن، ولم يتمكن من تجديد تصريح عمله، وهو أمر مكلف للغاية. بعد أن فقدت وظيفتها، قررت العودة، على أمل إيجاد عمل في وطنها. قبل سقوط النظام، كانت التأشيرة تسمح بالسفر بين البلدين. أما الآن، فقد أصبح القرار نهائيا، إذ شددت الحكومة الأردنية شروط التأشيرة والدخول. ورغم أنها غيرت رأيها، إلا أنها لا تستطيع العودة.

العودة خيار تفرضه المتغيرات


في الواقع، لا تُعد العودة قرارا طوعيا محضا، بل هي قرار يتأثر بانعدام البدائل المتاحة في البلد المضيف. ومثل عائلة الخضر، لا يزال ملايين السوريين عالقين بين هشاشة العيش في المنفى، بانتظار تحسن الأوضاع، وعدم اليقين بشأن العودة إلى وطنهم. في مصر وتركيا ولبنان والأردن والعراق، لا يزال 4.3 مليون لاجئ يواجهون هذه المعضلة. وحتى الآن، عاد ثلاثة ملايين لاجئ إلى سوريا منذ سقوط النظام السابق.
إن تخفيضات المساعدات الإنسانية من مختلف الدول والمؤسسات الدولية في السنوات الأخيرة تؤثر بالفعل على حياة اللاجئين، الذين يُجبرون، في بعض الحالات، على العودة إلى ديارهم بعد انقطاع المساعدات وعدم إيجاد عمل في الأردن. ريم محمد الرفاعي، البالغة من العمر 30 عاما،
وصلت إلى الزرقاء، الأردن، عام 2012. لا ترغب هذه الأم الشابة بالعودة الآن، لكن رغبتها في أن يدرس أطفالها تغلب مخاوفها. تقول ريم: “اتصلوا بي قبل أسابيع ليخبروني أنهم لن يتمكنوا من تمويل دراسة أطفالي بدءًا من الفصل الدراسي القادم”.
مع ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين 9 و15 عاما، ستعود إلى بلدها الأم خلال بضعة أشهر، حيث التعليم أرخص، إذ لا تستطيع تحمل تكلفة الفصل الدراسي الواحد في الأردن، والتي تبلغ 300 دينار أردني (360 يورو).

إلى جانب تقليص المساعدات الإنسانية، تؤثر عوامل اقتصادية وإدارية أخرى على قرارات عودة آلاف اللاجئين السوريين في الأردن. ويُعدّ نقص الموارد المالية عائقا أمام الراغبين في بدء حياة جديدة في سوريا، إذ لا يستطيعون تغطية احتياجاتهم الأساسية، كالسكن، بسبب ارتفاع الأسعار. والعودة دون مدخرات أو عرض عمل تعني المجازفة التي لا يقدر عليها إلا القليل.

في ظل غياب الموارد المالية في الأردن، ومواجهة الاقتصاد السوري المتردي الذي تصل فيه نسبة البطالة إلى 25%، يُفضّل الشباب السوري البقاء في الأردن، لا سيما إن كانوا يعملون. فمع قوة العملة وانخفاض التضخم، يستطيع العاملون في الأردن إرسال حوالات مالية إلى عائلاتهم في سوريا. لذا، حتى وإن كانت الرغبة في العودة قوية، فلا بد من توفر الإمكانيات المالية اللازمة لذلك.


الديون تفرض العودة

قررت إسراء مصطفى الغزالي، البالغة من العمر 30 عاما، العودة إلى سوريا مع بناتها الأربع الصغيرات. لن يرافقهم زوجها لعدم قدرته على السفر بسبب تراكم الديون عليه في الأردن. العودة ليست سهلة بالنسبة لها، لكنها سعيدة برؤية والديها وإخوتها مجددا. قصة إسراء ليست استثناءً، فبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تعود 43% من العائلات إلى سوريا منفصلة، حيث يُجبر فرد أو أكثر على البقاء.

وصلت إسراء إلى الأردن في سن المراهقة، حيث درست التجميل وتصفيف الشعر، لكنها لم تتمكن قط من العمل في هذا المجال. تقول الشابة بأمل، وهي تحمل ابنتها ذات العامين بين ذراعيها: “أريد أن أجرب حظي في سوريا، فالوضع هنا صعب للغاية”. في الأردن، تتضاءل فرص العمل للأجانب بشكل متزايد، ولذلك يُضطر الكثيرون إلى الاقتراض لتغطية احتياجاتهم الأساسية، كالإيجار أو الخدمات الطبية. يُعيق تراكم الديون عودة الكثيرين، إذ لا يُسمح لهم بمغادرة البلاد عند الحدود إذا كانت لديهم مشاكل قانونية متعلقة بهذه الديون.

سيعود زوج إسراء إلى سوريا حالما يُنهي سداد ديونه. تقول إسراء، وهي غير متأكدة من موعد لمّ شملهم: “يريد زوجي العودة إلى العمل، وإعادة بناء حياته، ورؤية عائلته مجددا”.
يحلم عدد كبير من اللاجئين بالعيش يوما ما في سوريا، لكن العودة ستكون بطيئة وغير منتظمة، إذ لا تضمن العودة حاليا حياة أفضل. في الوقت الراهن، لا يجرؤ على العودة إلا قلة قليلة، مدفوعين غالبا بانعدام البدائل في الخارج. والنتيجة هي عائلات مُشتتة تعود دون يقين، عالقة بين الرغبة في إنهاء المنفى الطويل الذي لم يختاروه.

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews