عربي و دوليمقالات

الحرب في السودان: التوصيف الخاطئ الذي أخفى الإبادة

بقلم: عماد بالشيخ – صحفي ومحلل سياسي


مقدّمة

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، ساد في الخطاب الدولي توصيفٌ بات متداولاً على نطاق واسع: “صراع بين جنرالين”، أو “حرب أهلية داخلية”. غير أنّ هذا التوصيف لم يكن سوى قراءة سطحية مضلّلة لأحد أكثر النزاعات دموية وتعقيداً في القارة الإفريقية.
الحقيقة التي تتكشف يوماً بعد يوم هي أنّ ما يجري في السودان ليس حرباً أهلية، بل عدوان منظّم تشنه مليشيا مدعومة من الخارج، ارتكبت جرائم إبادة وتهجير واغتصاب جماعي، بينما يقاتل الجيش السوداني دفاعاً عن سيادة بلاده ووحدة أراضيه.


أولاً: التوصيف المضلّل وبداية الانحراف الإعلامي

منذ اللحظات الأولى لاندلاع المواجهات بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ومليشيات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تعاملت وسائل الإعلام الدولية مع المشهد وكأنه صراع على السلطة بين جنرالين طموحين.
هذا الوصف الذي تبنّته كبريات الصحف الغربية، من نيويورك تايمز إلى رويترز وبي بي سي، ساهم في إضعاف وعي الرأي العام العالمي بحقيقة ما يجري على الأرض، حيث فُقد التمييز بين دولة ذات جيش نظامي، وبين مليشيا مرتزقة خرجت على القانون واستباحت المدنيين.

تقارير ميدانية صادرة عن الجزيرة وفرانس 24 ومجلة تايم الأميركية، وصفت الفظائع المرتكبة في إقليم دارفور بأنها تتجاوز حدود الحرب التقليدية لتصل إلى مستوى الإبادة الجماعية والتطهير الإثني، وهو ما يتنافى تماماً مع توصيف “حرب بين جنرالين”.


ثانياً: الدعم الخارجي… من وراء الستار

تشير الأدلة الواردة في تقارير الأمم المتحدة ومجموعة الخبراء التابعة لمجلس الأمن إلى تورط الإمارات العربية المتحدة في تزويد مليشيا الدعم السريع بالسلاح والمال عبر خطوط تهريب تمرّ من ليبيا وتشاد.
أما صحيفة “ذا غارديان” البريطانية (28 أكتوبر 2025) فقد كشفت عن العثور على أسلحة بريطانية الصنع استخدمتها المليشيات في عملياتها ضد المدنيين في دارفور.
كما نقلت منصة “بيزنس إنسايدر إفريقيا” وموقع “ذا كريدل” أن الحكومة السودانية طالبت لندن بوقف صادرات السلاح إلى أبوظبي، بعد ثبوت وصوله إلى أيدي عناصر الدعم السريع.

تلك التقارير تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الحرب في السودان لم تكن داخلية صرفة، بل هي حرب وكالةٍ تخوضها مليشيا تموّلها أبوظبي لتحقيق مصالح اقتصادية واستراتيجية، في مقدمتها السيطرة على ذهب وموارد دارفور الغنية باليورانيوم.


ثالثاً: الفاشر… المدينة التي كشفت الحقيقة

في أكتوبر 2025، نقلت مجلة “تايم” الأميركية وقناة الجزيرة ورويترز مشاهد مروّعة من مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، بعد اقتحامها من قبل مليشيا الدعم السريع عقب حصار دام أكثر من عام ونصف.
أكثر من 1,500 مدني قُتلوا في أيام قليلة، بحسب تقارير المستشفيات والمنظمات الإنسانية.
ووصفت فرانس 24 ما جرى بأنه “مجزرة إبادة حقيقية”، فيما أعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن “صدمته العميقة من فظائع ترتكب أمام أنظار العالم”.

لقد مثّلت مجزرة الفاشر التحوّل الجوهري في الوعي الدولي، إذ لم يعد بالإمكان توصيف ما يجري بأنه مجرد قتال داخلي، بل حرب تطهير عرقي وتهجير ممنهج، تستهدف جماعات بعينها مثل الماساليت والزغاوة وسكان دارفور الأصليين.


رابعاً: الموقف الدولي وتحوّل الخطاب الأميركي

في 29 أكتوبر 2025، عقد مجلس الشيوخ الأميركي جلسة طارئة حول الوضع في السودان، تبنّى خلالها ستة من أبرز أعضائه مشروع قرار لتصنيف قوات الدعم السريع كجماعة إرهابية، وفق ما أوردته وكالة رويترز وموقع AllAfrica.
وأكد النواب الأميركيون أن الانتهاكات في دارفور “تُظهر نية واضحة للإبادة”، ودعوا إلى فرض عقوبات على القيادات الميدانية للمليشيا وعلى الجهات الخارجية التي تموّلها.
أما في لندن، فقد فتحت الحكومة البريطانية تحقيقاً حول تسرب معدات عسكرية بريطانية استُخدمت في جرائم حرب بالسودان، بحسب صحيفة “ذا غارديان” (30 أكتوبر 2025).

هذه التطورات تعكس تحولاً تدريجياً في الموقف الغربي من اعتبار الصراع نزاعاً داخلياً إلى الاعتراف به كجريمة دولية تتطلب تدخلاً قانونياً عاجلاً.


خامساً: البعد الإنساني والحقوقي

تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة أجمعت على أن ما يجري في دارفور حملة تطهير إثني شاملة.
فقد وثّقت المنظمات عمليات اغتصاب جماعي، اختطاف نساء وأطفال، عبودية جنسية، وحرق قرى بالكامل، في سلوك ممنهج يهدف إلى اقتلاع هوية دارفور الاجتماعية والعرقية.
كما قدّرت المنظمة الدولية للهجرة (IOM) عدد النازحين داخلياً بأكثر من ثمانية ملايين سوداني، بينما يعيش 25 مليوناً في حالة انعدام أمن غذائي حاد.


سادساً: تحليل سياسي وقانوني

من الزاوية السياسية، يتضح أن الجيش السوداني يخوض حرب وجود لا حرب سلطة، إذ يقاتل لحماية وحدة الدولة ومنع تفكيكها عبر مشروع انفصالي مدعوم خارجياً.
أما من الناحية القانونية، فتوفر الجرائم المرتكبة العناصر الكاملة لتوصيفها ضمن الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية:

  • وجود نية واضحة لاستهداف جماعات إثنية محددة.
  • قتل واسع النطاق للمدنيين.
  • استخدام العنف الجنسي كأداة تطهير.
  • تهجير قسري لملايين السكان.

كل ذلك يجعل توصيف “حرب أهلية بين جنرالين” خيانة للحقيقة العلمية والقانونية، ويخدم الأطراف المتورطة في تمويل الجريمة.


سابعاً: نحو توصيف أدق

بناءً على ما تقدّم، فإن التوصيف الأكاديمي والسياسي الأدق لما يجري في السودان هو:

نزاع داخلي ذي أبعاد إقليمية ودولية، تتصدره مليشيا متمرّدة مدعومة خارجياً، ترتكب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين، فيما يقاتل الجيش السوداني دفاعاً عن سيادة الدولة ووحدة أراضيها.


ثامناً: المصادر الإعلامية والحقوقية المعتمدة

  • صحيفة The Guardian البريطانية (28 و30 أكتوبر 2025)
  • وكالة Reuters (29 أكتوبر 2025)
  • مجلة TIME الأميركية (27 أكتوبر 2025)
  • قناة Al Jazeera English (29 أكتوبر 2025)
  • قناة France 24 (29 أكتوبر 2025)
  • موقع AllAfrica News (31 أكتوبر 2025)
  • منصة Business Insider Africa (أكتوبر 2025)
  • موقع The Cradle (30 أكتوبر 2025)
  • تقارير الأمم المتحدة ومجلس الأمن 2024-2025
  • بيانات العفو الدولية، هيومن رايتس ووتش، والمنظمة الدولية للهجرة (IOM)

خاتمة

ما يحدث في السودان اليوم هو جريمة عالمية تجري في وضح النهار، ضحاياها ملايين الأبرياء الذين تُركوا لمصيرهم تحت أنقاض مدنهم المدمّرة.
المسؤولية الأخلاقية والقانونية تفرض على الإعلام الدولي والمنظمات الحقوقية تصحيح توصيف الحرب السودانية، والكفّ عن اختزالها في ثنائية زائفة بين “جنرالين”.
إنّ إحقاق الحق يقتضي تسمية الأشياء بأسمائها: إنها إبادة جماعية ممنهجة، وحرب وكالة إقليمية، ينبغي أن يُحاسب مرتكبوها، ومن دعمهم بالمال والسلاح، أمام القانون الدولي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews