مقالات

محمد صلاح الدين يكتب: «حديثي عن الفساد» (3) بين الضمير والقانون

شبكة مراسلين
بقلم: محمد صلاح الدين – مستشار تطوير أعمال ومدرب معتمد، عضو شبكة محرري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

“بين الضمير والقانون: دروس من التجربة الأمريكية والتجربة المدنية في صناعة الضمير”
كيف يمكن أن تكون القيم الأخلاقية والروح الإيمانية أكبر حارس ضد الانحرافات والسلوكيات السلبية في بيئة العمل؟

للإجابة لابد أن نعود للركيزة الأولى من معيار الحق في الحماية وهو أن مسؤولية خلق هذه البيئة والثقافة التنظيمية التي تحمي المنظمة هي مسؤولية قيادة المنظمة في المقام الأول ، وهذه البيئة والثقافة لابد من أن تُبنى على أساس أخلاقي متين.

ولا يُمكن لأي منظمة جادة من بناء ثقافة تنظيمية قوية على أساس أخلاقي متين دون الاهتمام بالضمير الإيماني.

لأن الضمير الإيماني هو الدليل والمُرشد لضبط السلوك فالموظف المؤمن لا يُمكِن لصاحبه بحال من الأحوال أن يقع في الجريمة مع سبق الإصرار والترصد، ولعل هذا ما أشار إليه النبي ﷺ حين قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرِق السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن)؛ رواه البخاري ومسلم

وهذا الحكم النبوي على أن الواقع في الفساد لا يُمكن أن يكون مؤمنًا وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن ، والسؤال: كيف يُصنع الضمير الإيماني الذي يحمي صاحبه من الوقوع فريسة سهلة في جريمة من جرائم الفساد؟

وللإجابة لابد أن نرفع منسوب الوعي للدرجة التي نُدرك بها قول الإمام مالك رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) ولعله هنا يقصد المنهج والطريقة التي صُنع بها أول هذه الأمة.

ولكن من يشرح لنا هذا المنهج وهذه الطريقة؟

ولعل حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يضع لنا أساس هذا المنهج الرفيع فقد جاء في الحديث الصحيح أنه جاء إليها رجل عراقي، يحاورها ويسألها وكان مما أجابته رضي الله عنها: (….. إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا).. تُشير رضي الله عنها إلى منهج صناعة الضمير الإيماني الذي يؤمن بالبعث والحساب وأن الالتزام بالحلال والحرام والحقوق والواجبات والتشريع (القانون) لا يُمكن إلا من خلال ضمائر حية ترجو رحمة الله وتخشى عذابه.

فعندما نزل تحريم الخمر قال المؤمنين انتهينا يارب ، بينما عندما حاولت أمريكا تجريم شُرب الخمر وتجريمَه، فما استطاعت؛ لأن التشريع لا يأتي بقانون فحسب بل يأتي بثقافة وبيئة تحتضن التشريع ، بينما كان المجتمع الأمريكي قد اعتاد الترفَ واللذَّة واللهو، وتَجاهل مُنطلَقات الإيمان وحقائقه، ولم يَصدُر عنها في تَصرُّفاته.

وهذا هو الفارق الحضاري الجوهري بين حضارة الإيمان ومدنية الإنسان في العصر الحديث

فما بين عامي (1920-1933) ـ فُرض الحظر العظيم على الكُحول أو ما سُمي بـ”التجربة النبيلة”

وكان الهدف هو الحد من الجريمة والفساد، وحل المشاكل الاجتماعية، وتقليص العبء الضريبي الذي تفرضه السجون وملاجئ الفقراء، وتحسين الصحة والنظافة في أميركا. ورغم كل هذه الأهداف النبيلة إلا أن النتائج والعواقب الكارثية أثبتت فشلًا ذريعًا على كافة الأصعدة، أدت إلى إجهاض كل هذه الأهداف النبيلة وحصد المجتمع عكسها تمامًا إذا زادت الجريمة

ورغم أن استهلاك الكحول انخفض في بداية الحظر، إلا أنه ارتفع بعد ذلك. وأصبح استهلاك الكحول أكثر خطورة؛ وزادت الجريمة وأصبحت “منظمة”؛ وبلغت أنظمة المحاكم والسجون حد الانهيار؛ وتفشى الفساد بين المسؤولين العموميين نتيجة لتفشي الرشوة من عصابات الجريمة المنظمة وبائعي الكحول. ولم تتحقق مكاسب ملموسة في الإنتاجية أو الحد من التغيب عن العمل.

وأزال الحظر مصدراً مهماً من مصادر الإيرادات الضريبية وزاد الإنفاق الحكومي إلى حد كبير. ودفع العديد من شاربي الكحول إلى التحول إلى الأفيون والماريجوانا والأدوية الحاصلة على براءات اختراع والكوكايين وغيرها من المواد الخطيرة التي ما كانوا ليواجهوها على الأرجح في غياب الحظر.

ولقد أطلق على كل هذه العواقب اسم “القانون الحديدي للحظر”. وينص القانون على أنه كلما زادت شدة تطبيق القانون، كلما زادت قوة المادة المحظورة. فعندما تُحظر المخدرات أو المشروبات الكحولية، فإنها تصبح أكثر قوة، وستكون ذات تباين أكبر في قوتها.

لهذا استغرب البعض عندما قلت في الحلقة الماضية (إن فكرة التعامل مع الفساد على أنه ظاهرة وتحد يحتاج إلى مواجهة حاسمة بالقانون تبدو فكرة ساذجة فيها من المُراهقة الإدارية والسطحية الكثير بل قد تبدو في بعض السياقات أنها فكرة تُساعد في تعميق الفساد وانتشاره لا معالجته أو الحد منه بل يُمكن لمن لديه مجموعات تأثير وعلاقات مُحصنة داخل المؤسسة ودراية لابأس بها بالقانون فيستخدم القانون وثغراته لتعميق الفساد ومأسسته بحماية أصحاب المصالح.)

فتجربة أمريكا في حظر الكحول تثبت لنا بأن الفساد يزداد ويتعاظم بالاعتماد على القانون والإجراءات والجزاءات والعقوبات وفقط، دون تغيير الأفكار والعقول والمشاعر المستودعة في الضمائر والنفوس.

ورُغم ما لدينا من تُراث ثقافي وإيماني وأخلاقي كبير يميزنا عن غيرنا إذا ما حاولنا الاستفادة والركون إليه لتحقيق التميز المؤسسي إلا أن البعض ممن لديه عقدة الخواجة ممن تعود على التلقي مُستبدلًا الذي هو أدنى بالذي هو خير.. لأنه عاجز عن تحويل الخير الذي لديه إلى نماذجًا وحلولًا حضارية إما زُهدًا فيها أو جهلًا بما تحويه من حلول.

والآن لنرى كيف استطاع غيرنا أن يُدرك الحلول التي لدينا ويقدمها للناس كافة كقيمة عُليا ومقاصد سامية

فمن على منبر الأمم المتحدة، وخلال فعالية نظمتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، بمناسبة اليوم الدولي لمكافحة كراهية الإسلام (إسلاموفوبيا) الذي تقرر أن يكون يوم 15 مارس من كل عام، تحدّث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن كلمة “إسلام” مشتقة من الجذر نفسه لكلمة “سلام”، وقال بأنه رأى تجليًا معاصرا لما جاء به القرآن الكريم، مستشهدا بالآية{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} [سورة التوبة: 6].

إن مسألة اللاجئين التي يرى فيها البعض معضلة دولية، حلها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان بالإيمان دون القانون على أهميته بطبيعة الحال.

وأخيرًا: على قادة المنظمات أن يُدركوا أن مسؤولية الحماية تقع عليهم بالمقام الأول، وأن تحملهم للمسؤولية الاجتماعية خارج المنظمة يأتي بالتوازي مع المسؤولية الاجتماعية والضميرية داخل المنظمة لرفع منسوب اليقظة والوعي الإيماني داخلها ، فلا يُمكن الاعتماد على النجاح في الخارج دون الاهتمام بالداخل. وصدقت أم المؤمنين رضي الله عنها: (….. إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا).. إنها صناعة الضمائر الحية تلك الصناعة الثقيلة التي فقدتها الأمة منذ قرون طويلة وفقدت معها مكانتها الحضارية بين الأمم.

وبهذا نستعيد الروح الإيمانية الأولى التي صنعت الضمير الأول ونخلق منظمة وبيئة قوية تشجع على الإصلاح والتقويم المستمر شعارها حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.

إن القيم الإيمانية ليست مجرد شعارات نرددها، بل هي نبض الحياة للإنسان على اختلاف مستوياته ومسؤولياته الإدارية والتنظيمية في بيئة العمل، حيث تجد التوازن بين السعي للنجاح والالتزام بالأخلاق. في مقالنا القادم، سنكشف كيف يمكن لهذه القيم أن تُغيِّر وجه الشركات المعاصرة، ونستعرض حلولًا عملية تُحوِّل الإيمان إلى قوة دافعة للابتكار، النزاهة، والتميز المؤسسي. فكونوا معنا لاستكشاف أسرار القيم الملهمة!

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews