سياسةمقالات

الصمت القاتل والدور القاصر: الهجوم الإسرائيلي على قيادات حماس كامتداد لعجز الأنظمة

صادر عن مركز ما وراء النيل للدراسات الاستراتيجية

بقلم: د. هاشم عبدالسلام

هل توارث حكام وزعماء العالم العربي والإسلامي الخنوع والجبن جيلاً بعد جيل، حتى صاروا عاجزين عن مواجهة إسرائيل؟ أم أنّ الأمر أعمق من ذلك، ويتصل بمنظومة من التحالفات الدولية والمصالح الإقليمية، حيث صارت هذه الأنظمة أسيرة لمعادلات البقاء في الحكم، ولو على حساب الأرض والكرامة والحقّ التاريخي للشعوب؟

لقد جاء الهجوم الإسرائيلي الأخير على قيادات حركة حماس في قلب العاصمة القطرية الدوحة، في التاسع من سبتمبر 2025، ليضع هذا السؤال في قلب المشهد السياسي من جديد. ففي وضح النهار، اخترقت طائرات الاحتلال سماء دولة عربية، وقصفت قيادات كانت تجلس إلى طاولة مفاوضات تبحث عن تهدئة لوقف نزيف الدم في غزة. لم يكن القصف موجهاً لحماس وحدها، بل كان رسالة وقحة إلى العواصم العربية كلها: إسرائيل تستطيع أن تضرب حيث تشاء، ومتى تشاء، ولن تجد أمامها سوى صمت رسمي بارد، أو بيانات تنديد لا تسمن ولا تغني من جوع.

منذ نكبة 1948 وحتى نكسة 1967، عاشت الأمة سلسلة متلاحقة من الهزائم التي زلزلتوجدانها، لكنّ أثرها الأكبر كان في النفوس والعقول أكثر منه في الأرض. فقد تحوّل الخوف إلى سياسة، والانكفاء إلى منهج حكم، ومع مرور العقود، تراجع المشروع القومي والتحرري لتحلّ مكانه تحالفات وظيفية مع القوى الكبرى، شعارها “البقاء في الحكم أولاً”، ولو كان الثمن هو التنازل عن مواجهة الاحتلال، أو القبول بالأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل.

لقد فهمت تل أبيب هذه المعادلة مبكراً. أدركت أنّ الأنظمة العربية لا تخشى شيئاً كما تخشى غضب القوى الغربية التي تحمي عروشها، وأنّ مصالح هذه العروش لا تلتقي مع مصالح شعوبها. لهذا لم تعد ترى في الجيوش العربية أو الحكومات المحيطة بها خصوماً حقيقيين، بل جدراناً من الصمت تحيط بالاحتلال، وتمنحه الغطاء اللازم ليمارس عدوانه دون قلق أو حساب.

الهجوم على قيادات حماس في الدوحة كشف بوضوح أنّ الخوف لم يعد مجرد حالة سياسية عابرة، بل أصبح جزءاً من البنية العميقة للأنظمة الرسمية. فحين تُقصف عاصمة عربية، ولا تتحرك الجيوش، ولا تُقطع العلاقات، ولا يُرفع الصوت في المحافل الدولية، فإنّ السؤال عن التواطؤ يصبح مشروعاً، بل وحتمياً. هل نحن أمام أنظمة فقدت القدرة على الغضب، أم أمام أنظمة ترى في بقاء الاحتلال مصلحة ضمنية لأنها تخشى التغيير الذي قد تحمله المقاومة والانتفاضات الشعبية معها؟

لقد تحوّلت القضية الفلسطينية في كثير من الخطابات الرسمية إلى ملف إنساني لا سياسي، وكأنها مجرد أزمة إغاثة أو مساعدات، لا قضية تحرر وطني وكرامة أمة بأسرها. هذا التحويل لم يكن بريئاً، بل كان جزءاً من عملية إفراغ كبرى للمشروع التحرري العربي، بدأت منذ عقود، وتوجت باتفاقيات التطبيع العلني التي منحت الاحتلال شعوراً تاريخياً بالنصر السياسي بعد النصر العسكري.

لكن، وعلى الرغم من كل هذا الخذلان الرسمي، تظل الشعوب العربية والإسلامية تحمل في وجدانها جذوة القضية، وترى في فلسطين مرآةً لكرامتها وضميرها الجمعي. فقد أثبت التاريخ أن الشعوب لا تموت، وأنّ كلّ مرحلة صمت رسمي تسبقها أو تليها موجة مقاومة شعبية تعيد التذكير بأنّ الحقوق لا تسقط بالتقادم، وأنّ الاحتلال إلى زوال مهما طال الزمن وتكاثر المتخاذلون.

إنّ ما جرى في الدوحة لم يكن مجرد عدوان على حماس، بل كان عدواناً على كرامة الأمة كلها، وعلى سيادتها وهيبتها وحقها في تقرير مصيرها. وإذا استمرت الأنظمة العربية والإسلامية في دفن رؤوسها في الرمال، فإنّها لن تخسر فلسطين وحدها، بل ستخسر أيضاً ما تبقى من شرعية تاريخية أمام شعوبها وأمام الأجيال القادمة.

التاريخ لا يرحم. وسيكتب أن هذه الحقبة شهدت عروشاً تخاف من غضب المحتل أكثر مما تخاف من لعنة شعوبها، وأنّ إسرائيل لم تكن لتتمدد لولا صمتٌ عربيّ رسميّ وفّر لها الغطاء والوقت والفرصة لتكريس احتلالها. لكنّه سيكتب أيضاً أنّ الشعوب، مهما صمتت أنظمتها، لم تصمت، وأنّ المقاومة، مهما تراجعت، ستعود، لأنّ الكرامة لا تموت، ولأنّ فلسطين ستبقى البوصلة مهما تكاثر الخوف والخنوع والتخاذل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews