مقالات

عنصرية الثقافة والفكر والانتقاء الاستعلائي للمثقفين حسب العرق

بقلم : الدكتور هاشم عبد السلام

العنصرية الثقافية والفكرية ليست مجرد أداة للتفريق بين الأعراق والثقافات، بل هي نظام هيمنة يُفرض بطرق متنوعة، ليحرم مجموعات بعينها من المشاركة العادلة في المشهد الثقافي والفكري العالمي. تُمارس هذه العنصرية بشكل صامت أحياناً، من خلال السياسات الثقافية التي تُظهر تفضيلاً واضحاً لمجموعات محددة، وبشكل صارخ أحياناً أخرى عبر التهميش المباشر للمثقفين وأصحاب الرأي الذين ينتمون لأعراق أو ثقافات تعتبرها النخب السائدة “أقل شأناً”.
خلفيات وأسباب العنصرية الفكرية:
من أبرز أسباب العنصرية الثقافية والفكرية، النزعة الاستعمارية التي كرست فكرة تفوق ثقافة وعرق معين على غيره. الاستعمار لم يكن مجرد احتلال جغرافي، بل هو منظومة متكاملة سعت إلى فرض لغة وثقافة المستعمر على الشعوب المستعمَرة، ما أدى إلى تهميش لغاتهم الأصلية واعتبارها غير صالحة للتعبير عن الفكر أو العلم.
هذا النظام الاستعلائي لا يزال قائماً، وإن اختلفت أشكاله. ففي العالم الحديث، نرى كيف يتم تحديد لغات بعينها كالإنجليزية والفرنسية باعتبارها “لغات عالمية” معتمدة، بينما تُهمّش لغات أخرى رغم غناها الثقافي والتاريخي.
تحديد اللغة الإنجليزية والفرنسية كلغتين معتمدتين عالميًا لا يخلو من النزعة العنصرية، لأنه يعكس الهيمنة الثقافية والسياسية لدول بعينها على حساب التنوع الثقافي العالمي. هذا التحديد ليس اختياراً طبيعياً أو موضوعياً، بل هو جزء من الإرث الاستعماري الذي فرض تلك اللغات على الشعوب المستعَمرَة كرمز للتمدن والتقدم.


تجليات العنصرية الثقافية:
العنصرية الثقافية تتخذ أشكالاً متعددة يمكن ملاحظتها في كثير من المجتمعات والمؤسسات، ومن أبرزها:
فرض اللغات المهيمنة:
تحديد الإنجليزية والفرنسية كلغتين عالميتين للتعامل الأكاديمي، الثقافي، والسياسي يجعل من الصعب على المتحدثين بلغات أخرى المنافسة أو التعبير عن ثقافاتهم بلغاتهم الأم. هذا التفضيل يُعزز فكرة أن هذه اللغات أرقى من غيرها، ويُضعف مكانة اللغات المحلية.
على سبيل المثال، في كثير من الدول الإفريقية، تُعتبر الإنجليزية أو الفرنسية اللغة الرسمية في التعليم والحكومة، بينما تُهمَّش اللغات الأصلية التي تمثل هوية السكان. هذه السياسة اللغوية ليست فقط أداة للاستعمار الثقافي، بل أيضاً وسيلة لحرمان الشعوب من حقوقها الثقافية والمعرفية.
تهميش الأدب والفكر غير الغربي:
غالباً ما يتم تهميش الأعمال الأدبية والفكرية التي تُكتب بلغات غير معتمدة عالمياً، حتى لو كانت ذات قيمة فكرية عالية. في المنتديات الدولية، نادراً ما تُعرض أعمال بلغات آسيوية أو إفريقية أو أصلية إلا إذا تُرجمت إلى الإنجليزية أو الفرنسية، وكأن الاعتراف بشرعية هذه الأعمال يتطلب عبورها عبر “بوابة” اللغات المهيمنة.

احتكار المنصات الثقافية الدولية:
يتم اختيار المشاركين في المؤتمرات والفعاليات الثقافية الدولية بناءً على قدرتهم على التحدث باللغات المهيمنة، مما يُقصي المثقفين الناطقين بلغات أخرى أو الذين يتمسكون بثقافتهم الأصلية.
آثار العنصرية الفكرية:
العنصرية الفكرية والثقافية لا تؤثر فقط على الأفراد المهمشين، بل تُضعف المجتمعات بأكملها. عندما تُقصى ثقافات معينة، يُحرم العالم من تنوع فكري غني كان يمكن أن يسهم في حل القضايا الكبرى.
فرض لغات مهيمنة يعمق الفجوة بين الشعوب، حيث تصبح اللغات المحلية مجرد أدوات للتواصل اليومي، بينما تُستخدم اللغات المهيمنة للتعليم والبحث العلمي والإدارة. هذا التمييز يؤدي إلى إضعاف الهوية الثقافية للشعوب ويجعلها عرضة للتبعية الفكرية والثقافية.
في كثير من الحالات، يؤدي هذا الإقصاء إلى شعور بالعزلة لدى المثقفين والمبدعين الذين ينتمون إلى ثقافات غير مهيمنة. هؤلاء يُجبرون إما على التكيف مع النظام السائد والتخلي عن هويتهم الثقافية، أو يظلون على الهامش دون فرصة للمشاركة أو التقدير.
التصدي لعنصرية الثقافة والفكر:
التصدي لعنصرية الثقافة والفكر يتطلب أولاً الاعتراف بها كأزمة عالمية تعيق التقدم البشري.
الاعتراف بالتعددية اللغوية:
يجب تعزيز التعددية اللغوية باعتبارها حقاً ثقافياً وإنسانياً. الاعتراف باللغات المحلية كلغات مساوية للغات المهيمنة ضرورة لتحقيق العدالة الثقافية. على سبيل المثال، يمكن إدخال اللغات المحلية في المناهج الدراسية الرسمية وإعطاؤها مكانة متساوية مع اللغات الأجنبية.
تشجيع الأدب والثقافة المحلية:
يجب أن تكون هناك جهود دولية لدعم الأعمال الأدبية والفكرية المكتوبة باللغات غير المهيمنة، وإبرازها في المحافل الدولية دون الحاجة إلى ترجمتها إلى اللغات الاستعمارية.
إصلاح السياسات اللغوية:
على الدول التي تستخدم لغات مهيمنة كلغات رسمية أن تعمل على تعزيز لغاتها المحلية، ليس فقط كرمز للهوية الوطنية، بل كجزء من المساهمة في التنوع الثقافي العالمي.
تعزيز الحوار الثقافي:
إيجاد منصات ثقافية دولية تحتفي بجميع اللغات والثقافات على قدم المساواة، وتُتيح الفرصة للمثقفين من مختلف الخلفيات للتعبير عن آرائهم دون تمييز.


نماذج من المقاومة الثقافية:
على الرغم من محاولات التهميش، هناك العديد من النماذج التي استطاعت مقاومة هذه العنصرية الثقافية والفكرية. في الهند، على سبيل المثال، ما زالت اللغات المحلية كالهندية والبنغالية تُستخدم على نطاق واسع في الأدب والسينما، رغم الهيمنة التاريخية للإنجليزية.
في أفريقيا، تشكل أعمال الكُتّاب مثل تشينوا أتشيبي ونجوجي واثيونجو نموذجاً للمقاومة الثقافية، حيث اختاروا الكتابة بلغاتهم الأصلية بدلاً من الانصياع للنظام السائد.
في العالم العربي، استمر المثقفون في الكتابة بلغتهم الأم، متحدين محاولات الهيمنة الثقافية الغربية. ومع ذلك، فإن التحديات لا تزال قائمة، حيث يتم تهميش الأعمال العربية عالمياً لصالح الأعمال المكتوبة باللغات المهيمنة.اخيرا فان العنصرية الفكرية والثقافية هي معركة مستمرة بين قوى الهيمنة والرغبة في تحقيق العدالة الثقافية. لا يمكن للعالم أن يزدهر فكرياً وثقافياً إلا عندما يُعترف بجميع اللغات والثقافات على قدم المساواة، ويُمنح الجميع فرصة عادلة للتعبير عن أنفسهم دون الحاجة إلى التنازل عن هويتهم أو لغتهم الأم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews