مقالات

النوبة الكوشيين: المصريين القدماء أصل العرب وبني اسرائيل

ممدوح ساتي – السودان- مراسلين

لقرون طويلة، ظلّت النوبة ضحية التعتيم والتشويه، حتى بدا وكأنها مجرد هامش لتاريخ وادي النيل. لكن الحقائق بدأت تنكشف: النوبة ليست ظلاً لمصر القديمة المسماه فرعونية، بل أصلها وجذرها الأول ، فالمصريون القدماء هم أنفسهم أجداد النوبيين الكوشيين الذي ما زالوا يقطنون جنوب مصر وشمال السودان.

اللغة النوبية تنتمي إلى العائلة الكوشية، وهي شقيقة للغات شرق أفريقيا مثل التغرينية والأمهرية، ولها وشائج قديمة مع لغات جنوب الجزيرة العربية في اليمن. إنها لغة ضاربة في التاريخ، تشهد على وحدة عرقية وثقافية عبر البحر الأحمر ووادي النيل.

  • النوبة.. الرحم الذي أنجب العرب وبني إسرائيل

النوبيون ليسوا مجرد شعب عريق، بل الرحم التاريخي الذي أنجب أعظم الأمم:

من رحم النوبة جاءت السيدة هاجر، أم إسماعيل، ومن نسلها العرب العدنانيون، ومنهم النبي محمد ﷺ.

ومن رحم النوبة أيضاً جاءت يوكابد، أم النبي موسى، الذي قاد بني إسرائيل من العبودية إلى الحرية.

بهذا تصبح النوبة الرابط العرقي والإنساني بين العرب وبني إسرائيل. فهم الخال والرحم الذي جمع السلالتين ، والشريان الذي حمل رسالات السماء عبر التاريخ.

  • الأصل الكوشي للعرب والعلاقة الثقافية

تشير الأبحاث إلى أن العرب القدماء تشاركوا أصولاً كوشية–نوبية، عبر هجرات ربطت وادي النيل بالجزيرة العربية. حتى الموروث الثقافي – من الأزياء إلى الموسيقى – يحمل بصمات نوبية.
النوبة لم تكن امتدادا جنوبياً لمصر فحسب، بل جذراً مشتركاً للعرب والكوشيين.

  • النوبة والإسلام: من النجاشي إلى البقط

حين اشتد بطش قريش بالمسلمين، لم يجد الصحابة ملاذاً أرحم من النجاشي ملك الحبشة، الذي احتضنهم وأمّن عقيدتهم الجديدة. كانت تلك اللحظة أول جسر بين الإسلام والشعوب الكوشية.

وبعد الفتح الإسلامي لمصر، جاءت اتفاقية البقط (652م) بين المسلمين ومملكة المقرة النوبية. لم تكن معاهدة سلام فقط، بل عقداً للتعايش والتبادل:

تجارة متبادلة وبضائع مشتركة.

حماية متبادلة للرعايا.

والأهم: مصاهرات بشرية وثقافية بين العرب والنوبيين، ولّدت مجتمعاً جديداً نصفه عربي ونصفه نوبي، ما زال يعيش حتى اليوم على ضفاف النيل ، فالمسلمين لم ينجحوا بفتح المملكه النوبية حربا ، لكن الاسلام انتشر هناك عبر النسب والمصاهره والأرحام.

  • اكتشافات شارلس بونيه: عودة الحقيقة المدفونة

في كرمه شمال السودان، قاد البروفيسور السويسري شارلس بونيه تنقيبات قلبت الرواية التاريخية رأساً على عقب. اكتشف مدينة نوبية تعود إلى أكثر من 2500 عام قبل الميلاد، تضم قصوراً ومعابد ونظام حكم متطور.

وفي عام 2003، عثر على تماثيل ضخمة لملوك النوبة بملامح أفريقية صافية وتاج مزدوج سبق التاج الفرعوني. هذه الاكتشافات أثبتت أن النوبة هي الأصل والبداية الحقيقية للحضارة التي يسميها العالم فرعونية. المصريون القدماء والنوبيون لم يكونوا شعبين منفصلين، بل حضارة واحدة بجذور كوشية عميقة.

كما قال بونيه: “لقد وجدنا هنا حضارة كاملة تنافس، بل تسبق، الحضارة الفرعونية. المصريون القدماء والنوبيون هم شعب واحد بثقافة واحدة.”

  • النوبة اليوم: شعب أصلي يقاوم الاندثار

اليونسكو تصنّف النوبيين ضمن الشعوب الأصلية في السودان، باعتبارهم أصحاب الأرض واللغة والذاكرة.
في مصر والسودان تعمل جمعيات ومنظمات أهلية مثل “الجمعية النوبية للتراث والتنمية” ،”اتحاد النوبيين” ،”مؤسسة نوبيا للثقافة” ، “المنظمة النوبية للثقافة واحياء التراث والتنمية”،”جمعية دنقلا للثقافة والتراث”، “الرابطه النوبية” ، وغيرها، على حماية التراث، رغم التهجير والتهميش.

لكن التحديات ضخمة: التهجير القسري بسبب السد العالي أغرق 44 قرية نوبية، و الحرب السودانية تسببت بنهب المتاحف والآثار، وتجاهل الإعلام الرسمي في مصر والسودان للهوية النوبية.

** مهددات اللغة النوبية: آخر خندق في معركة البقاء

اللغة النوبية اليوم تواجه خطر الانقراض:

  • أكثر من 90% من الشباب النوبي لا يجيدون لغتهم الأم.
  • اللهجات القديمة مثل الدنقلاوية والمحسية لم يتبقَّ منها سوى قلة من المتحدثين المسنين.
  • لا وجود لأي مدرسة رسمية تُدرِّس النوبية في مصر أو السودان.

ومع ذلك، تنهض مبادرات شبابية لمقاومة الاندثار:

مجهودات ومؤلفات باحثين مهتمين باللغة النوبية والتراث

تطبيقات إلكترونية لتعليم النوبية عبر الهواتف.

أغاني وراب باللغة النوبية تصل إلى الأجيال الجديدة.

مكتبات شعبية وقنوات يوتيوب متخصصة في التراث النوبي.

هذه الجهود أعادت الأمل، وسجلت زيادة بـ 500% في متعلمي النوبية عبر الإنترنت خلال السنوات الأخيرة.

*النوبة لن تموت

النوبة ليست مجرد لغة على حافة الاندثار أو قرى غمرها السد العالي. النوبة هي رحم الحضارة، أصل العرب وبني إسرائيل، والجسر الذي عبر منه الإسلام إلى أفريقيا.

من يطمس النوبة يطمس جذور الإنسانية كلها.
لكن النوبة – كما صمدت آلاف السنين – ستبقى، خال العرب وأصلهم الكوشي، وحارس النيل إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews