مقالات

ثورة الطائرات المسيّرة الرخيصة: نهاية وهم التفوق الأميركي؟

بقلم: علي زم -خاص مراسلين

أزالت الحرب الطاحنة بين روسيا وأوكرانيا الستار عن الكثير من الخفايا التي غيّبت بقصد وغير قصد عن عيون العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة مطلع تسعينيات الألفية الثانية، بل وسوّقت روايات مغايرة مبالغ فيها بشدة جعلت من الصعب للمرء تصديق ما يحدث اليوم.

رغم ما تملكه من تفوق عسكري وتكنولوجي في أنظمة الأسلحة الثقيلة والمعقدة، يبدو أن الولايات المتحدة، تجد نفسها اليوم في مأزق غير متوقع؛ تخلف وعجز أمام ثورة الطائرات المسيرة الرخيصة. الحرب في أوكرانيا لم تغيّر فقط موازين القوة التقليدية، بل فضحت أيضاً ثغرات البنتاغون في التعامل مع أسلحة صغيرة الحجم، منخفضة الكلفة، لكنها عالية التأثير.

منذ قيامها، استثمرت واشنطن مئات المليارات في مشاريع طموحة مثل مقاتلة «إف-35» أو الدبابات المتقدمة والذخائر الذكية، لكنها أغفلت عنصراً أساسياً في المعركة الحديثة: الابتكار المرن والقدرة على التكيف السريع. فبينما تنجح الطائرات المسيّرة البدائية التي لا تتجاوز قيمتها ألف دولار في تدمير معدات عسكرية بالملايين، لا تزال الولايات المتحدة مقيدة بهيكلية بيروقراطية مرهقة وعقود بطيئة واختبارات طويلة الأمد تمنعها من مجاراة إيقاع ساحات القتال.

ليس هذا فحسب، إذ تكمن المعضلة الأبرز في الحظر المفروض على القطع الصينية. صحيح أن دوافع هذا الحظر أمنية وسياسية، لكن النتيجة العملية هي أن أي بديل أميركي يصبح باهظ الثمن بشكل غير معقول، إلى درجة أن بعض المكوّنات قد تكلف مئة ضعف إذا ما صُنعت محلياً. ومن دون حلول مبتكرة أو شراكات إنتاجية واسعة، ستبقى الفجوة قائمة، وسيظل خصوم واشنطن أكثر مرونة في هذا المجال.

ولعلّ ما يثير القلق هو أن الجيش الأميركي بدأ يتعامل مع الطائرات المسيّرة كأداة هامشية في حين أنها تحولت إلى العمود الفقري للمعارك الحديثة. أوكرانيا كشفت بوضوح أن 80 في المئة من الضربات الدقيقة مصدرها المسيّرات خصوصاً الإيرانية منها، وأن الدبابات لم تعد آمنة على الطرق. إذاً، نحن أمام ثورة لا رجعة عنها عنوانها: الطائرة المسيّرة باتت بندقية الجندي في القرن الحادي والعشرين.

صحيح أن البنتاغون بدأ يتجه نحو نهج «المخاطرة المدروسة»، ويسمح للقادة بإطلاق برامج تدريب وتصنيع سريع، لكن هذه الخطوات تبدو متأخرة قياساً بما يحدث في الميدان. التجارب القصيرة لمدة أسبوعين لتعليم الجنود على استخدام المسيّرات هي خطوة ضرورية، لكنها غير كافية ما لم تتحول إلى جزء من عقيدة القتال الأميركية.

المعضلة الأخرى أن القطاع الخاص الأميركي، رغم ديناميكيته، لا يزال ينتظر «الطلب الحكومي الضخم» كي يبرر استثمارات واسعة في هذا المجال. الشركات الناشئة مثل «أندوريل» تسعى للتوسع، لكن غياب التزام واضح من الدولة يجعل التقدم بطيئاً. وهنا تبرز المفارقة: الولايات المتحدة، التي قادت ثورات تكنولوجية غيرت العالم، تبدو مترددة في تبنّي ثورة عسكرية تجري أمام عينيها.

من منّا لا يذكر عندما طالب ترامب عقب أسابيع من فوزه بالرئاسة من شركات الدفاع الأميركية أن “تصنّع طائرات دون طيار تشبه الطائرات الإيرانية، الرخيصة، السريعة، والقاتلة”.

وفي تصريح آخر، وصف المسيرات الإيرانية بأنها «جيدة وسريعة و قاتلة، ومخيفة»، لافتاً إلى أنها تُستخدم بكثافة في الصراع الروسي-الأوكراني.

ختاماً، معركة الطائرات المسيّرة ليست معركة ثانوية أو مؤقتة، بل هي اختبار حقيقي لمستقبل التفوق الأميركي. إذا لم تتحرك واشنطن بسرعة لإصلاح ثغراتها، عبر سياسات أكثر مرونة وعقود إنتاج ضخمة تتيح خفض الكلفة وتعزيز الابتكار، فقد تجد نفسها بعد سنوات قليلة مضطرة لمجاراة خصوم أصغر حجماً، لكن أكثر كفاءة في استخدام أدوات الحرب الجديدة.

الثورات العسكرية لا تنتظر أحداً، وساحات المعارك لا ترحم المتأخرين وأصحاب الشعارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews