غياب العدو المشترك… العقدة التي تخنق مشروع الناتو الإسلامي

بقلم : علي زم
دخلت فكرة إنشاء حلف شمالي إسلامي (ناتو إسلامي) منذ سنوات طويلة قاموس الأدبيات السياسية والأمنية للعالم الإسلامي، وغالبًا ما تم التأكيد عليها من خلال الاجتماعات الاستشارية أو البيانات المشتركة. يبدو من الظاهر أن هذا المشروع يمكن أن يعمل كآلية دفاع جماعي لمواجهة التهديدات المشتركة، إلا أن الواقع الهيكلي والجيوسياسي والأيديولوجي يُظهر أن هذه المبادرة، أكثر من كونها قابلة للتنفيذ، تقتصر في الغالب على وظيفة رمزية ودعائية. وتشير دراسة أعمق للتطورات الإقليمية إلى أن تحقيق مثل هذا الاتحاد على المدى القصير وحتى المتوسط يكاد يكون مستحيلاً.
في النظرة الأولى، يُعتبر الشرط الأساسي لتشكيل أي تحالف عسكري هو وجود تعريف موحد للتهديد المشترك. في العالم الإسلامي، لا يوجد إجماع واضح في هذا الصدد. كل لاعب يقيم التهديدات وفقًا لموقعه الجغرافي وتاريخ صراعاته وأولوياته الأمنية الخاصة. فبعض التهديدات تحمل طابعًا طائفيًا أو دينيًا، وبعضها الآخر بُعدًا عرقيًا أو جغرافيًا، في حين يركز آخرون على القضايا الجيواقتصادية أو التنافس على الموارد والطاقة ومسارات النقل. هذا الاختلاف في ترتيب الأولويات يجعل من الصعب صياغة عقيدة دفاعية موحدة من البداية.
من جانب آخر، ترتبط العلاقات بين الدول الإسلامية بتباينات عميقة وجذرية، بعضها تاريخي والبعض الآخر نتيجة للمنافسات الجيوسياسية الحديثة. بعض الدول تتنافس على القيادة السياسية أو الدينية للعالم الإسلامي، وتسعى لاستغلال المبادرات الأمنية كأداة لتعزيز هيمنتها، في حين يقاوم الآخرون هذه التوجهات. وهنا، يتحول أي حلف أمني محتمل من أداة للتقارب إلى ساحة لتقاطع المصالح والمنافسة على القوة. وقد أظهرت التجارب الأخيرة للتحالفات العسكرية في المنطقة أن مشاركة غالبية الدول كانت رمزية أكثر منها عملية، مع غياب الإرادة لتقاسم التكاليف أو تحمل تبعات أمنية.
ثمة عامل مهم آخر يتمثل في الاعتماد الهيكلي للجيوش الإسلامية على الخارج. جزء كبير من القدرات العسكرية والتسليحية لهذه الدول مرتبط بالولايات المتحدة والغرب. هذا الاعتماد لا يعيق الاستقلال الاستراتيجي فحسب، بل يضع القوى الكبرى في موقع يسمح لها بالتحكم أو توجيه المبادرات الأمنية الإقليمية. من غير المرجح أن تسمح هذه القوى بتشكيل حلف عسكري مستقل يعمل خارج نطاق سياساتها. إضافة إلى ذلك، القوات المسلحة في العديد من الدول، نظرًا لتدريبها وجهوزيتها وتقنياتها المرتبطة بالغرب، تفتقر عمليًا إلى القدرة على التنسيق المستقل.
والأهم من هذا كله، فالتنوع الأيديولوجي في العالم الإسلامي يشكل عائقًا جوهريًا آخر. هناك طيف واسع من التيارات الفكرية والدينية والسياسية، من التفسيرات الدينية الصارمة إلى الاتجاهات العلمانية. هذا التنوع غالبًا ما يتحول إلى صراع مستمر ويخلق حالة من الشك والريبة المتبادلة. فأي محاولة للتقارب الأمني قد يُنظر إليها على أنها فرض لأيديولوجية أو نموذج حكم معين، مما يؤدي إلى خلاف حتى على المستوى المفهومي بشأن طبيعة الحلف.
اقتصادياً، هناك عقبات كبيرة أيضًا. يتطلب تشكيل حلف عسكري فعال آليات مالية مستقرة، ميزانيات دفاعية مشتركة ونظام لتوزيع التكاليف. لكن التفاوت في مستوى التنمية الاقتصادية بين الدول الإسلامية كبير للغاية. بعض الدول تواجه أزمات اقتصادية حادة وعجزًا ماليًا وضغوطًا دولية، في حين تتمتع دول أخرى بعائدات نفطية وغازية ضخمة، ومن الطبيعي أن تمتنع هذه المجموعة عن تحمل الأعباء المالية للدول الأضعف. إذن، حتى لو تم تشكيل هذا الحلف المزعوم، سيكون عاجزًا عن تأمين الموارد اللازمة للمهام المشتركة.
من الناحية الجغرافية، يشكل التشتت الواسع للدول الإسلامية عقبة كبيرة. تمتد هذه الدول عبر قارات متعددة؛ من شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا. الاختلافات الجيوسياسية بين هذه المناطق كبيرة للغاية، وتختلف تهديداتها ومصالحها جذريًا. هذا التشتت يقلل بشكل كبير من إمكانية التنسيق العملياتي، ويجعل التعاون العسكري الواسع صعب التحقيق حتى بوجود إرادة سياسية.
عامل آخر يضعف فكرة الناتو الإسلامي يتمثل في تدخلات وضغوط القوى العالمية. فقد أظهرت التجارب أن أي مبادرة أمنية إقليمية لا تتوافق مع سياسات القوى الكبرى تواجه بسرعة ضغوطًا دبلوماسية واقتصادية، وربما أمنية. وهنا، ستفضل الدول عدم الدخول في حلف مستقل ومكلف، والاعتماد بدلاً من ذلك على الأطر القائمة أو التحالفات الثنائية مع القوى الكبرى.
كل هذه العوامل تجعل فكرة الناتو الإسلامي أكثر من كونها مشروعًا عمليًا للدفاع الجماعي، مجرد أداة دعائية. فأي عاقل قارئ للمعطيات والواقع يدرك أن طرح هذه الفكرة في البيانات السياسية أو الإعلامية هدفه إدارة الرأي العام وإظهار قوة زعماء هذه الدول، أكثر من كونها مبادرة تنفيذية. في الواقع، يقتصر هذا المشروع الجيوسياسي على وظيفته الرمزية، ولا يمتلك أي فرصة للتحقق عمليًا بسبب غياب البنية التحتية المؤسسية، الاقتصادية والأمنية اللازمة.
وفي ضوء هذه الخلفية، يمكن القول إن الناتو الإسلامي في الظروف الراهنة أشبه بحلم في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، وليس استراتيجية قابلة للتطبيق. ضعف تعريف التهديد المشترك والمنافسات العميقة بين الدول والاعتماد العسكري على الخارج والانقسامات الأيديولوجية والقيود الاقتصادية والتشتت الجغرافي، كلها عوامل تجعل تحقيق هذا المشروع مستبعدًا للغاية. بالتالي، من المرجح أن يبقى هذا المشروع على مستوى الشعارات السياسية دون تطبيق عملي في المستقبل القريب.