مقالات

كيف فرضت واشنطن خطة السلام على نتنياهو ودفعته للاعتذار للدوحة


بقلم: وليد شهاب


في قاعة الشرق بالبيت الأبيض، حيث تتداخل أنفاس التاريخ مع همسات القرارات المصيرية، اجتمع رجلان يحملان على كاهليهما ثقل نزاع دامٍ ووعود سلامٍ معلقة. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في لقاءٍ وصفه المراقبون بأنه قد يحمل في طياته لحظة تحول مفصلي في واحدة من أكثر أزمات العالم استعصاءً. الهواء كان مشحوناً بتوقعات الإعلان عن خطة سلام طال انتظارها لإنهاء الحرب في غزة، وهي الحرب التي أنهكت البشر والحجر وتركت إسرائيل في مواجهة مع عزلة دولية تتسع يوماً بعد يوم

لم يكن اللقاء مجرد اجتماع دوري عادي، بل جاء تتويجاً لأسبوع حافل من الضغوط الدبلوماسية المكثفة التي مارسها البيت الأبيض على حليفه الإسرائيلي، في محاولة واضحة لكسر الحلقة المفرغة من العنف والانتقام. وقف ترامب إلى جانب ضيفه، مبتسماً بثقة لامراء فيها، ليعلن للصحفيين المجتمعين أنه “واثق جداً” بالتوصل إلى اتفاق بشأن غزة، بينما حافظ نتنياهو على ترتيب وجهه المعتاد، محملاً بكلمات التأييد للخطة الأمريكية، لكن بعيونٍ تخفي وراءها حسابات معقدة تتراوح بين الضغوط الداخلية والرهانات الإقليمية

هذه الثقة الأمريكية العلنية لم تكن وليدة الصدفة، بل جاءت بعد سلسلة من الاتصالات المغلقة والوساطات الخفية التي قادتها الدبلوماسية الأمريكية بلا كلل، مستفيدةً من علاقاتها المتشعبة في المنطقة، خاصة مع الوساطة القطرية والمصرية، في محاولة لسد الفجوة العميقة من عدم الثقة بين الأطراف المتنازعة. لكن المفارقة تكمن في تزامن هذا الأمل الدبلوماسي مع استمرار دوي المدافع على الأرض، حيث توغلت الدبابات الإسرائيلية في عمق مدينة غزة في واحدة من أوسع الهجمات العسكرية خلال الأشهر الماضية، في إشارة صارخة إلى التعقيد الشديد الذي يلف هذه المفاوضات والهوة الشاسعة بين طاولة الحوار وساحة المعركة

في قلب هذه التطورات المتسارعة، برزت خطة ترامب التي كشف البيت الأبيض عن معالمها كنوع من الخريطة الطموحة التي تسعى ليس فقط لإطفاء نيران الحرب، بل لإعادة رسم المعادلات السياسية والأمنية في القطاع المحاصر. الخطة، التي وصفت بأنها الأكثر تفصيلاً حتى الآن، لا تكتفي بالدعوة لوقف إطلاق النار، بل تتعداها إلى اقتراح هيكل حكم انتقالي غير مسبوق، يشرف عليه مجلس مؤقت برئاسة ترامب نفسه، ويضم شخصيات دولية بارزة مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، فيما يتم تسليم الشؤون الإدارية اليومية للقطاع إلى لجنة فلسطينية من التكنوقراط، مع استبعاد واضح لحركة حماس من أي دور في المرحلة الانتقالية أو ما بعدها

اللافت في بنود الخطة هو تركيزها على البعد الإنساني، حيث تؤكد على عدم الحاجة إلى تهجير سكان غزة، وهي نقطة تتناقض بشكل صارخ مع تصريحات سابقة لترامب أثارت عاصفة من الاحتجاجات الدولية. كما تضع الخطة جدولاً زمنياً ضيقاً لتنفيذ بنودها، فتدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار حال قبول الطرفين، يليه انسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي، مع إطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين خلال اثنتين وسبعين ساعة فقط من الموافقة على الخطة

لكن ربما أكثر البنود إثارة للجدل هو ذلك المتعلق بتشكيل قوة دولية لإرساء الاستقرار، تنتشر فوراً في غزة، مهمتها ليست فقط حفظ الأمن، بل أيضاً تدريب ودعم ما وصفته الوثيقة بـ “قوات الشرطة الفلسطينية المتوافق عليها”، وذلك بالتشاور مع كل من الأردن ومصر. هذا البند يلامس أحد أكثر الملفات حساسية، وهو مستقبل الأمن في القطاع، والذي كان ولا يزال حجر عثرة في وجه أي تسوية سابقة

من جهته، لم يبد نتنياهو حماساً مفرطاً أثناء المؤتمر الصحفي، بل حرص على رسم خطوطه الحمراء بوضوح. قالها صراحةً إن “غزة سيكون لها إدارة مدنية وسلمية لن تقودها لا حماس ولا السلطة الفلسطينية”، مخاطباً ترامب مباشرة ليؤكد موقفه الصلب بأنه “لن يكون للسلطة الفلسطينية أي دور في غزة من دون أن تشهد تحولاً فعلياً وجذرياً وحقيقياً”. هذه العبارات تعكس الإصرار الإسرائيلي على منع عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بالصيغة الحالية، وهي نقطة خلافية كبيرة مع الفلسطينيين وحلفائهم الإقليميين

وفي تطور مفاجئ، كشفت مصادر دبلوماسية مطلعة أن نتنياهو، خلال وجوده في البيت الأبيض، أجرى اتصالاً هاتفياً مع رئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، قدم خلاله اعتذاراً رسمياً عن الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف مسؤولين في حركة حماس داخل الأراضي القطرية. البيان الصادر عن البيت الأبيض وصف الاعتذار بأنه “خطوة أولى”، حيث عبر نتنياهو عن “أسفه العميق” لأن الضربة أدت “عن غير قصد” إلى مقتل عسكري قطري، معترفاً بأن إسرائيل “انتهكت سيادة قطر” ومؤكداً أن “إسرائيل لن تنفذ هجوماً مماثلاً في المستقبل

هذه الحادثة، التي هزت الأوساط الدبلوماسية، أظهرت مدى حساسية الموقف ومدى الرغبة الأمريكية في احتواء أي تداعيات قد تعرقل مسار المفاوضات الهش أصلاً. الاعتذار الإسرائيلي النادر، خاصة لدولة مثل قطر التي تتهمها إسرائيل علناً بدعم حماس، يكشف عن حجم الضغوط الأمريكية المباشرة على نتنياهو، وأيضاً عن الأهمية الاستثنائية التي تعلقها واشنطن على دور الوساطة القطرية في هذه المرحلة الدقيقة.

وفي سياق متصل، أفادت تقارير عن ضغوط عربية مكثفة على نتنياهو لقبول مقترح ترامب، حيث حثته دولة الإمارات، وهي الشريك العربي الأبرز لإسرائيل في إطار اتفاقيات أبراهام، على قبول الخطة الأمريكية والتخلي عن أي نوايا لضم أجزاء من الضفة الغربية. مصادر مطلعة قالت إن الإمارات حذرت نتنياهو بشكل واضح من أن أي خطوة نحو الضم ستعني نهاية أي أفق للتطبيع مع دول عربية وإسلامية أخرى، بما في ذلك السعودية وإندونيسيا، وهي رسالة وصلت بشكل واضح إلى واشنطن، ما دفع ترامب نفسه إلى رفض فكرة الضم علناً.

الدعم للخطة الأمريكية لم يقتصر على الجانب العربي، بل تجاوزه إلى دواخل إسرائيل نفسها، حيث عبر شخصيات سياسية بارزة، مثل بيني غانتس ويائير لابيد، عن تأييدهم لمقترح ترامب، معتبرين إياه فرصة تاريخية يجب عدم إضاعتها لاستعادة الرهائن وضمان الأمن وإمكانية توسيع دائرة التطبيع في المنطقة. هذا الموقف من داخل المعسكر السياسي الإسرائيلي يضع نتنياهو في موقف بالغ الحرج، خاصة مع الضغوط المعاكسة التي يمارسها عليه حلفاؤه من أحزاب اليمين المتطرف الرافضين لأي تنازلات.

من جهة أخرى، يبقى السؤال الأكبر معلقاً حول موقف حركة حماس من هذه الخطة. مسؤول في الحركة، محمود المرداوي، أكد أن حماس “لم تتلق بعد خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المكتوبة”، على الرغم من تأكيد وساطة قطرية ومصرية على تسليمها الوثيقة للحركة. هذا التناقض في الروايات يسلط الضوء على حالة الارتباك والإرباك التي تحيط بالعملية التفاوضية برمتها، كما يعكس التحدي الكبير في إقناع حركة تصفها واشنطن وبرلين والاتحاد الأوروبي بأنها “منظمة إرهابية” بقبول خطة سلام تقصيها بشكل كامل من المشهد السياسي والإداري في غزة.

مصادر إقليمية وصفت خطة ترامب المكونة من واحد وعشرين بنداً بأنها تمثل “تحولاً جوهرياً” في نهج واشنطن تجاه القضية الفلسطينية عموماً وملف غزة على وجه الخصوص. فبعد سنوات من سياسة الاحتواء والتفادي، تقدم الخطة لأول مرة ما يمكن وصفه بمسار محدد، وإن كان عاماً، نحو إقامة دولة فلسطينية، وهي فكرة كانت إدارة ترامب تتجنب الخوض فيها سابقاً. هذا التحول لا يخلو من مفارقة، خاصة إذا ما قورن بتصريحات سابقة لترامب اقترح فيها “تهجير جميع سكان غزة”، وهو التصريح الذي أثار حينها عاصفة من الإدانات الدولية.

على الجانب المصري، الذي يلعب دور الوسيط الرئيسي، تبدو القاهرة حريصة كل الحرص على ألا يؤدي أي اتفاق إلى تهميش أو إقصاء السلطة الفلسطينية المعترف بها دولياً، كما تسعى للحصول على ضمانات قوية بتراجع إسرائيل عن أي تهديدات بالضم وبتنفيذها لشروط أي اتفاق بشكل كامل فور تحرير الرهائن. هذه المطالب تعكس هواجس عربية مشتركة من أن تتحول أي صفقة إلى مجرد هدنة مؤقتة تفتح الباب أمام المزيد من التعقيدات المستقبلية ختاماً، بينما تغرب الشمس عن مبنى الكابيتول في واشنطن، تبقى مصائر الملايين معلقة على كلمة “نعم” أو “لا” من أطراف النزاع. خطة ترامب، بكل ما تحمله من طموح وتعقيد، تطرح نفسها كاختبار حقيقي لإرادة السلام وإرادة الحرب. هي محاولة لكتابة فصل جديد في سفر الصراع العربي الإسرائيلي الطويل، فصل قد يحمل بين سطوره بذور سلام دائم، أو قد يكون مجرد صفحة أخرى إلى سجل الإخفاقات الدبلوماسية المتراكمة، العيون تتجه الآن نحو الدوحة وغزة وتل أبيب، في انتظار ردود الأفعال التي ستحدد ما إذا كان العالم على أعتاب منعطف تاريخي، أم أنه سيدور مرة أخرى في الحلقة المفرغة ذاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews