مقالات

العبور من دوامة الانهيار هل نصنع مصيرنا أم نرقب أفولنا؟

قرائة في الواقع العربي

بقلم : وليد شهاب

ما أشبه الليلة بالبارحة! نستفيق على أصوات التحذيرات، وننام على أنباء الأزمات، وكأنما كتب علينا أن نعيش في حلقة مفرغة من التحديات. السؤال الذي يظل يطرق أبواب الوعي: هل نحن ضحايا الجغرافيا والسياسة، أم شركاء في صناعة مأساتنا؟

تشريح الواقع المرير بين الحلم والواقع

لو فتشتنا خريطة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، لرأينا مشهداً متناقضاً عجيباً. دول ترفل في ثوب الحداثة وتلهث وراء المستقبل، وأخرى تئن تحت وطأة الماضي، وكثيرات علقت في الوسط بين المطرقة والسندان. هذا التباين ليس حادثة عابرة، بل هو نتاج تراكمات تاريخية وسياسات اقتصادية واجتماعية تستحق الوقوف عندها طويلاً.

في الجانب المشرق، نرى دولاً خليجية استطاعت أن تحول مواردها النفطية إلى مشاريع تنموية طموحة، تبني مدناً ذكية وتستثمر في التقنيات الحديثة وتعمل على تنويع اقتصاداتها. لكن حتى هذه النجاحات تظل هشة أمام تقلبات الأسواق العالمية وتغير تحالفات القوى الدولية.

أما في الجانب الآخر، فثمّة دول عربية ما زالت تعاني من ويلات الحروب الأهلية والصراعات الطائفية. سوريا التي كانت يوماً جنّة الشرق، تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية. اليمن الذي كان يغنّي أساطير سد مأرب، أصبح مسرحاً لأكبر أزمة إنسانية في العالم. ليبيا الغنية بالنفط تائهة في متاهات الصراعات القبلية والتدخلات الخارجية.

لعبة الأمم وأوهام السيادة

لا ننكر أن أيدٍ خارجية تلعب في ملعبنا، لكننا نسأل: لماذا أصبحت أراضينا ساحة لتصفية حسابات الآخرين؟ لأننا قدمنا الفرصة على طبق من ذهب، حينما تخلينا عن مشروعنا الحضاري.

التدخل الخارجي ليس جديداً على المنطقة العربية، لكن ما يستحق التأمل هو كيف أصبح هذا التدخل جزءاً من بنية النظام السياسي العربي. فالكثير من النخب الحاكمة تعوّدت على البحث عن شرعيتها من الخارج بدلاً من الداخل، وعن الاعتماد على الحماية الدولية بدلاً من القاعدة الشعبية.

هذا لا يعني تبرئة القوى الدولية من مسؤوليتها عن تدهور الأوضاع. فالاستعمار القديم رسم حدوداً مصطنعة، والاستعمار الجديد يمارس سياسات تخدم مصالحه على حساب استقرار المنطقة. لكن الفرق اليوم أن العالم أصبح أكثر تعقيداً، والقوى الدولية نفسها تتغير وتحالفاتها تتبدل، بينما نظل نحن مكانك راوح.

السيادة الوطنية لم تعد ذلك المفهوم المجرد الذي نتغنى به في الخطابات الرنّانة. السيادة الحقيقية تعني القدرة على اتخاذ القرار المستقل، وحماية الحدود، وتنمية الاقتصاد، والحفاظ على الهوية. وهي أمور لا توهب، بل تكتسب بالإرادة والعمل والاستراتيجية الواضحة.

الشباب العربي ذلك الكنز المدفون

أقولها وبكل مرارة، لدينا أعلى نسبة شباب في العالم، لكننا نحول طاقاتهم إما إلى وقود للصراعات، أو إلى بضاعة للهجرة! لو استثمرنا في عقل شاب واحد كما نستثمر في صفقة سلاح واحدة، لكان مصيرنا مختلفاً.

الأرقام تتحدث عن نفسها بوضوح. حسب تقارير البنك الدولي، يشكل الشباب تحت سن الخامسة والعشرين نحو 60% من سكان المنطقة العربية. هذه ثروة ديموغرافية هائلة، لو أحسنا استغلالها لأصبحت قوة دافعة للتقدم والتنمية. لكن الواقع يقول إن بطالة الشباب في المنطقة العربية هي الأعلى عالمياً، وتتجاوز 25% في كثير من البلدان.

المأساة ليست في الأرقام فقط، بل في الخسائر الكامنة خلفها. كم عالماً مفكراً فقدناه إلى الهجرة؟ كم مبتكراً تحول إلى موظف عادي؟ كم شاباً طموحاً تحطمت أحلامه على صخرة البيروقراطية والفساد؟

الهجرة ليست مشكلة في حد ذاتها، فالتنقل البشري ظاهرة صحية في العولمة. لكن المأساة حين تكون الهجرة هرباً من واقع مرير، لا سعياً وراء فرص أفضل. حين يضطر الشاب المتميز إلى مغادرة وطنه لأنه لا يجد فيه مكاناً لطموحه، فهذه جريمة بحق المستقبل.

الاقتصاد العربي من النفط إلى المعرفة

لطالما اعتبرنا النفط نعمة، لكنه قد يتحول إلى نقمة إن لم نحسن استغلاله. فالثروات الطبيعية وحدها لا تبني أمماً، بل تبنيها العقول والأفكار والإرادات.

النموذج التنموي العربي يحتاج إلى مراجعة جذرية. فلا يعقل أن نبقى رهنين لأسعار من الإبرة إلى الصاروخ. التنمية الحقيقية تبدأ بالتعليم.

بعض الدول العربية بدأت تخطو خطوات جادة في هذا الاتجاه. الإمارات أصبحت مركزاً للابتكار والتقنية، والمملكة العربية السعودية تطلق رؤية طموحة لمرحلة ما بعد النفط، ومصر تستعيد دورها الإقليمي من خلال مشروعات تنموية كبرى. لكن هذه الجهود تظل بحاجة إلى التكامل والتعاون على المستوى العربي.

التكامل الاقتصادي العربي ليس شعاراً رنّاناً نرفعه في المؤتمرات، بل هو ضرورة وجودية. فدول المنطقة تستورد سنوياً سلعاً وخدمات بقيمة مئات المليارات من الدولارات، بينما لا تتجاوز التجارة البينية العربية 10% من إجمالي التجارة العربية. هذه مفارقة تستدعي الوقوف عندها.

البعد الاجتماعي تماسك النسيج المجتمعي

لا يمكن فصل الأزمة السياسية والاقتصادية عن الأزمة الاجتماعية. فالمجتمعات العربية تعاني من تفكك في النسيج الاجتماعي، وانهيار في القيم، وانتشار للفردية على حساب التضامن المجتمعي.

العائلة العربية التي كانت دائماً حصن الأمة المنيع، أصبحت هي نفسها في مهب الريح. الفجوة بين الأجيال تتسع، والقيم تتغير، والروابط تضعف. هذا لا يعني الحنين إلى الماضي، بل يعني الحاجة إلى بناء نموذج مجتمعي جديد يجمع بين الأصالة والمعاصرة

المرأة العربية هي الأخرى تقف على مفترق طرق. فبينما حققت مكاسب مهمة في التعليم والمشاركة الاقتصادية، ما زالت تواجه تحديات جساماً على مستوى الحقوق والتمثيل السياسي والمكانة الاجتماعية. لا يمكن لأمة أن تنهض ونصفها معطل.

بصيص الأمل في نفق المأساة

رغم السواد، هناك شموع تضيء: تجارب تنموية ناجحة، إرادات فردية تتحدى المستحيل، صحوات شبابية ترفض الانزلاق إلى الهاوية. هذه البذور تحتاج فقط إلى تربة خصبة وإرادة جماعية.

في مجال التقنية، أصبح لدينا رواد أعمال عرب يقدمون حلولاً مبتكرة لمشاكل محلية وعالمية. في مجال الثقافة، هناك إبداعات أدبية وفنية تثري المشهد الحضاري الإنساني. في مجال السياسة، هناك محاولات جادة للإصلاح والتجديد، وإن كانت لا تزال بحاجة إلى المزيد.

الأمل ليس تفاؤلاً ساذجاً، بل هو رؤية واقعية تقول إن التغيير ممكن إذا توفرت الإرادة والاستراتيجية الصحيحة. الأمل هو أن نتعلم من أخطاء الماضي، وأن نستفيد من تجارب الآخرين، دون أن نفقد هويتنا وخصوصيتنا.

مقترحات عملية

ليس المطلوب أن نكون أبطالاً خارقين، لكننا مطالبون بأن نكون حراساً لضمير الأمة. وقد نختلف في التشخيص والعلاج، لكننا نتفق على شيء واحد: أن هذه الأرض تستحق أن نرفع الرؤوس من أجلها

أولاً: إصلاح التعليم. فلا تنمية بلا تعليم جيد، ولا تعليم جيد بلا إرادة سياسية حقيقية. التعليم ليس ترفاً، بل هو استثمار في المستقبل، وسلاح في معركة الوجود

ثانياً: تعزيز التكامل العربي. فوحدة المصير ليست شعاراً، بل هي حقيقة جغرافية وتاريخية وثقافية. والتعاون الاقتصادي والسياسي ليس خياراً، بل هو ضرورة

ثالثاً: تمكين الشباب. فهم ليسوا مستقبل الأمة فقط، بل حاضرها أيضاً. والتمكين ليس مجرد مناصب شكلية، بل مشاركة حقيقية في صنع القرار

رابعاً: إصلاح النظام السياسي. فالدولة الحديثة هي دولة المؤسسات والقانون، دولة المواطنة المتساوية، دولة التعددية والتداول السلمي للسلطة

سؤال المصير

فهل نبدأ من حيث انتهى الآخرون، أم نكرر دائرة الفشل ذاتها؟ السؤال ليس بلاغياً، بل هو وجودي يمس كل عربي وكل عربية

الأمة العربية ليست مجرد رقعة جغرافية، بل هي فكرة وحلم ومشروع حضاري. قد نختلف على تفاصيل هذا المشروع، لكننا نتفق على جوهره: كرامة الإنسان، وحرية الوطن، وعدالة التوزيع، واستقلالية القرار

العبور من دوامة الانهيار يحتاج إلى شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وحكمة التعلم من التجارب، وإرادة تغيير الواقع رفاهية نخبة، بل هو ضرورة شعب

في النهاية، التاريخ لا يرحم المتخاذلين، ولا يكافئ الجبناء. أما الأمم التي تصنع مصيرها بيدها، فإن الأبواب المغلقة تفتح أمامها، والحلم المستحيل يتحقق بين عينيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews