ممدوح ساتي -مراسلين
في عالم تُسرّع فيه المعلومات وتَتبدّل الحقائق بلمح البصر، صار جمع المعلومات من المصادر المفتوحة فناً فريداً ومهارة لا غنى عنها للصحفيين الاستقصائيين، للمحللين الأمنيين، ولأي جهة تريد أن تفهم حدثاً واقعياً بوضوحٍ أكبر.
هذا المقال يجمع شرحاً مباشراً لـ OSINT مع دليل عملي لكيفية استخدامه في الصحافة الاستقصائية وتحليل النزاعات المسلحة — مع لمسات ميدانية قابلة للتطبيق على حالات مثل حرب السودان.
ما هو OSINT باختصار موجز؟
OSINT — Open Source Intelligence
عملية جمعٍ منهجي وتحليل معلومات متاحة للعامة من مصادر متعددة: الإنترنت، وسائل التواصل، قواعد البيانات الحكومية، الصور والفيديو، الخرائط، المنشورات الأكاديمية، والمصادر التقليدية كالصحف والراديو. الفكرة ليست فقط في “جمع” ما يوجد، بل في تحويل الفوضى الرقمية إلى استنتاجات موثوقة قابلة للنشر أو للاستخدام الإستراتيجي.
لماذا يهم الصحفي والمحلل الميداني؟
لأن الـ OSINT يمنحك القدرة على:
التحقق من الأخبار والشائعات بسرعة ودقة.
بناء سلاسل زمنية للأحداث (chronologies) عبر تواريخ النشر والبيانات الوصفية.
جغرافية الأحداث عبر الجيو-لوكيشن (geolocation) وتحليل صور الأقمار.
ربط الأشخاص والكيانات عبر بيانات مفتوحة — دون أموال باهظة أو مصادر سرية.
خطوات العمل العملي في OSINT
- تحديد الهدف بوضوح: ما السؤال الذي تريد الإجابة عنه؟ (مثلاً: هل وقع هجوم كذا؟ من كان حاضراً؟ أين تحديداً؟)
- تصميم خطة بحث: قائمة منصات وباحثين، كلمات مفتاحية، فترة زمنية، نوع الأدلة المطلوبة (صور، فيديو، مستند).
- جمع أولي: تتبع المشاركات، النسخ الأصلية للصور، البيانات الوصفية، خرائط الزمن.
- التحقق (Verification): فحص مذكور المصدر، البحث العكسي للصور، مقارنة الظلال وخطوط الأفق، تحليل EXIF إن وُجد.
- التحليل: ربط عناصر مختلفة — شاهد، صورة، تغريدة — لتكوين سرد منطقي مدعوم بأدلة.
- التوثيق والتأمين: حفظ لقطات للشاشة، نسخ للمحتوى، أرشفة الروابط، تقييد الوصول للمواد الحساسة.
- التقرير: تقديم النتائج مع توضيح مستوى الثقة والقيود والمنهجية.
أدوات مفيدة (قائمة عملية)
بحث الصور العكسي: Google Images, TinEye.
التحقق من الفيديو: InVID (أدوات لتفكيك الفيديو والزمن والتعرف على لقطات مكررة).
تحليل الشبكات والعلاقات: Maltego.
بحث متقدم ومحركات بيانات: Google Dorking، Wayback Machine (الأرشيف).
خرائط وأقمار صناعية: Google Earth, Sentinel Hub.
منصات رصد التواصل: TweetDeck, CrowdTangle, أدوات مراقبة قنوات تيليغرام.
أدوات تجميع آلي: SpiderFoot, OSINT Framework (مخطط روّاد الأدوات).
في التحقيق الصحفي: منهج عمل قصصي
الصحافة الاستقصائية لا تبحث عن القصة السهلة؛ إنها تَربط النقاط وتُثبتها. استخدم OSINT لبناء سرد:
ابدأ بـ«معلومة مثيرة» (تغريدة، فيديو، مستند مسرّب).
اعمل عليها «تحقيق خلف الكواليس»: من نشرها أولاً؟ هل هناك لقطات أقدم؟ هل تتطابق مواقع المشهد مع الخرائط؟
قارن الأدلة المفتوحة مع مقابلات ميدانية ووثائق رسمية.
اعرض النتيجة مع شواهد مرئية وملاحق توثيقية تشرح كيف تحققت منها.
الجدوى: تقارير قابلة للتدقيق تحدث تأثيراً أعمق لأن القارئ يمكنه أن يرى «من أين أتت» كل حقيقة.
تحليل النزاعات (مثال قابل للتطبيق على حرب السودان)
عند تحليل صراع مسلّح، تحتاج OSINT لنهج مُنظّم ومتحفز أخلاقياً:
- بناء خط زمني للأحداث: تجميع التواريخ من مصادر محلية وإقليمية ومنشورات شهود عيان.
- التحقق الجغرافي: مطابقة صور/لقطات فيديو مع معالمٍ معروفة (مباني، تلال، طرق) لتحديد موقع الهجوم أو التحركات.
- تمييز المصادِر: فصل أنباء الحكومة عن شبكات الميليشيات ومنصات التواصل العشوائية.
- تحليل الصور الفضائية: متابعة تغيّر المواقع العسكرية أو البنى التحتية عبر الأقمار.
- شبكات الاتصالات: مراقبة كيفية تداول المعلومات، ومن يشاركها، وأي قنوات تُستخدم لنشر الدعاية أو الإشاعات.
- المخاطر الأخلاقية: حماية هويات المدنيين والمصادر، وعدم إعادة نشر معلومات قد تعرض حياة أشخاص للخطر.
تلميح ميداني: في سياق السودان، الصور والفيديوهات الميدانية تكون غالباً موزَّعة عبر قنوات محلية صغيرة؛ التتبّع للمصدر الأصلي (who uploaded first) وربط ذلك ببيانات جغرافية يعطيك أدلة قوية.
حدود ومخاطر وأخلاقيات
ليس كل ما على الإنترنت صحيحاً: اعمل دائماً بمبدأ الشكّ الجنائي (presumption of doubt) حتى تثبت الأدلة العكس.
الخصوصية والقانون: تجنّب تقنيات تنتهك الخصوصية أو الوصول غير المشروع.
التحيّز: المنهجية الصارمة والشفافية في الخطوات تمنع الانجراف نحو رواية متحيّزة.
السلامة: لا تعرّض مصادر ميدانية للخطر عبر مشاركة تفاصيل تحديد الموقع الدقيقة دون تدابير حماية.
كيف تبدأ الآن؟
- اكتب سؤالاً واضحاً تريد الإجابة عنه.
- اختر منصة أو أداة للبحث وابدأ بجمع أولي.
- طبق خطوات التحقق ثم وثّق كل خطوة.
- إذا كنت صحفياً، اصطحب نتائج OSINT إلى مقابلات ميدانية لتكريس الحقيقة.
الـ OSINT ليس بديلًا عن العمل الميداني أو التحقيق التقليدي، بل هو مضاعف قوة لهما: يفتح لك نافذة على مشاهد لا تراها بالعين المجردة، ويمنح تحقيقاتك عمقاً منطقياً ومرئياً. في زمن الحرب والمعلومات المضللة، تصبح هذه المهارة درعاً وسبيلًا لإيصال الحقيقة — طالما بقي الباحث أميناً، منهجياً، ومسؤولاً أمام الضحية والقارئ على حد سواء.
