مقالات

اغتيال الحمدي.. رصاصة محلية بضغطة زناد إقليمي

بقلم: ضيف الله الطوالي

الحادي عشر من أكتوبر من كل عام، لا يمر على اليمنيين كذكرى تاريخية عابرة، بل جرح مفتوح ونقطة تحول مأساوية حددت المسار الذي سلكته الجمهورية العربية اليمنية آنذاك عقوداً تالية، ففي هذا التاريخ من عام 1977، اغتيل الرئيس الشاب إبراهيم محمد الحمدي وشقيقه عبد الله الحمدي في صنعاء، ليسدل الستار على ما يسميه اليمنيون بـ “العهد الذهبي”، ويفتح فصلاً من الفوضى وتغلغل النفوذ الذي دفع البلاد لاحقاً إلى حافة الهاوية.

إن الخسارة التي تكبدها اليمن بسبب هذه الجريمة كانت مضاعفة وليس محليا فقط بل ودولياً أيضاً، إذ ضاع مشروع “الدولة المدنية الحديثة” الذي كان الحمدي يقود لبناته الأولى، وورثته أجيال عانت من تدهور مؤسسي و”نتائج كارثية” محلياً، وما زالت تبعات ذلك تتوالى حتى الآن، أما دولياً وإقليمياً، فقد خسرت المنطقة قائداً مستقلاً سعى لتثبيت الحياد الإيجابي لليمن ونزع فتيل التوتر مع جاره “الشطر الجنوبي” حينها، في توجه كان يمكن أن يرسخ الاستقرار المستدام ليس في اليمن الموحد فقط بل في شبه الجزيرة العربية ككل.

اليوم، يستقبل غالبة اليمنيون هذه الذكرى بحزن عميق والذي لم تُكشف كواليس الجريمة بعد التي نُفذت بأيادي آثمة، ويظل إرث الحمدي رجل النزاهة الذي قال: “لسنا حكاماً عليكم، ولكنا خدام لكم” حاضراً بقوة في قلوب الشعب، حتى بين الشباب الذي لم يعاصروه، كرمز لفرصة ضائعة وحلم مدني لم يكتمل.

مشروع التصحيح.. بناء الدولة على حساب مراكز القوى

كان إبراهيم الحمدي (الذي تولى السلطة في يونيو 1974) ضابطاً متدرجاً في المؤسسة العسكرية والأمنية، لكن رؤيته تجاوزت خلفيته العسكرية، إذ أطلق “حركة التصحيح” التي كان هدفها الجذري هو “بناء الدولة المدنية الحديثة” القائمة على المؤسسات والنزاهة، وقد تركزت إنجازاته، التي شكلت لاحقاً مبررات اغتياله، في مسارين متوازيين يتمثل الاول في تطهير المؤسسات ومحاربة الفساد، إذ شكل الإصلاح المالي والإداري حجر الزاوية في مشروع الحمدي، وهي خطوات كانت تهديداً مباشراً للطبقة الفاسدة في الدولة، ومن أبرز ما حققه في سنوات حكمه القصيرة مبدأ “من أين لك هذا؟”، ففي مطلع عام 1975، شكل الحمدي “لجنة الرقابة العليا لمكافحة الفساد”، ومنحها صلاحيات واسعة لتطهير أجهزة الدولة، مجسداً بذلك مبدأ محاسبة المسؤولين على ثرواتهم.

وفي نذات السياق شكل عام 1974 “الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة” مشدداً على الانضباط الإداري، واضعاً الرجل المناسب في المكان المناسب.

أما الثاني فهو المسار الأكثر حساسية كان إعادة بناء القوات المسلحة والهدف هو “جيش وطني وقرار سيادي مستقل”.
ففي

أبريل 1975، أصدر الحمدي قرارات تهدف إلى تصفية ما كان يُعرف بـ”مراكز القوى” داخل الجيش، والتي كانت تحت سيطرة بيوت قبلية وقيادات عسكرية نافذة (كبيت أبو لحوم)، هذه الخطوة، التي هدفت إلى بناء جيش وطني خالص موالٍ للدولة وليس للأفراد، قلبت عليه تحالف القوى القديمة ولم يكن من نصيبه البقاء.

وعلى الصعيد الخارجي، انتهج الحمدي سياسة وطنية التكوين، ونجح في تحقيق استقرار داخلي عبر علاقاته الحسنة مع دول الخليج مثل الشيخ زايد والملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية، كما عمل على نزع التوتر مع الشطر الجنوبي (اليمن الديمقراطية)، وفتح خطوط التفاهم مع الرئيس “سالم ربيع علي” المعروف بـ “سالمين”.

الثمن الجيوسياسي

لم تكن جريمة اغتيال الحمدي مجرد صراع داخلي، بل كانت تصفية سياسية لمعادلة إقليمية قائمة على تدخلات النفوذ الأجنبي، إذ أنه حسب ظنهم أن الحمدي تجاوز بقراراته خطوطاً حمراء إقليمية، أبرزها رفض الإملاءات الخارجية في ما يخص الجيش، ما أدى سعيه لبناء جيش وطني مستقل ورفضه أن يكون اليمن تابعاً، إلى جعله هدفاً يجب التخلص منه.

إضافة إلى التقارب مع رئيس اليمن الجنوبي “سالمين”، مثل تهديداً للاستراتيجيات الإقليمية التي كانت تستفيد من انقسام اليمن الشمالي والجنوبي، وتشير التحقيقات إلى أن النظام السعودي “وقف خلف جريمة الاغتيال من خلال التمويل والتخطيط والإشراف على التنفيذ” وقد أشار إلى هذا الرئيس السابق علي عبدالله صالح في إحدى خطاباته.

مسرح الجريمة

كشفت الروايات الاستقصائية عن تفاصيل مفزعة، حيث تم استدراج الحمدي وشقيقه إلى منزل رئيس الأركان آنذاك أحمد حسين الغشمي، وكشفت التقارير والتحقيقات ان الرائد علي عبد الله صالح هو “المنفذ الرئيسي” لعملية القتل المباشر، وتؤكد أيضاً أن الملحق العسكري السعودي، صالح الهديان، كان حاضراً ومشاركاً في الإشراف على التنفيذ، وسبق إطلاقه للنار إشارة منه، وما يعزز البعد الدولي للجريمة هو الكشف عن حجب وثائق متعلقة بملابسات الاغتيال في الأرشيفين الأمريكي والبريطاني، بـ”دواع استخباراتية”، خوفاً من أن رفع السرية عنها “قد يعرض مصالح واشنطن ولندن مع دولة أخرى للخطر”، هذا التعتيم الدولي عزز من قدرة المتورطين (الغشمي، ثم صالح) على تسلم السلطة لاحقاً، وطمس الحقائق لعقود.

إرث الذاكرة.. البحث عن العدالة المفقودة

لقد خلقت عملية الاغتيال فراغاً كارثياً في القيادة، مما سمح بعودة القوى التي حاربها الحمدي، وعلى رأسها القوى القبلية والعسكرية المناهضة لمشروع الدولة، وأُتيح الساحة للصعود السريع للقتلة والمنفذين إلى قمة الهرم السياسي، وتكريسهم لنظام حكم قائم على الولاء بدلاً من الكفاءة، وعلى الرغم من مرور عقود، فإن ذكرى الحمدي لم تسقط في غياهب التاريخ، بل ظلت مرجعية لأي نقاش حول مستقبل اليمن.

إن مطالبة اليمنيين، عبر مسيراتهم والتي كانت آخرها قبل انقلاب الحوثيين على الدولة، في 11 أكتوبر 2013، حيث خرجت مسيرة حينها في العاصمة صنعاء سبقتها مسيرات أخرى، نظمها التنظيم الوحدوي الناصري وأسرة الشهيد إبراهيم الحمدي، وطالبت بالكشف عن المتورطين والمتنفذين الحقيقيين في الجريمة، وتستمر هذه المطالب حالياً عبر منصات التواصل الاجتماعي، في ظاهرها مطالبة بفتح ملف الجريمة، وفي جوهرها مطالبة بـ “بعث الحلم المدني”، واستعادة اللحظة الوطنية التي قُتلت في أكتوبر 1977.

كان الحمدي وما زال الأثر السياسي للفرصة الضائعة
في عالم السياسة، قد يكون اغتيال قائد حدثاً عابراً، لكن في تاريخ اليمن، كان اغتيال الحمدي بمثابة زلزال جيوسياسي لم تتعافى منه البلاد حتى الآن، وقد مثلت رصاصة أكتوبر 1977 لحظة تراجعت فيها السيادة الوطنية أمام الأجندات الإقليمية، وحلت دولة الامتيازات محل دولة المؤسسات، وبينما يتشظى اليمن في حرب أهلية مدمرة، يظل “حلم الحمدي” بـ “الدولة المدنية الحديثة” هو الذاكرة الوحيدة التي يتفق عليها الشعب بمختلف ولاءاته كنموذج للحكم الرشيد المفقود، فإن إحياء ذكرى الحمدي ليس “نوستالجيا” للماضي، بل هو محاولة بائسة من جيل عانى ويلات الصراع لاستعادة الإحساس بالاستقلال الوطني والنزاهة المؤسسية التي سلبت منه في وضح النهار قبل خمسة عقود، ويظل السؤال معلقاً: هل سيتمكن اليمن، بعد كل هذا العناء، من استعادة مسار “التصحيح” الذي بدأه الحمدي، أم أن شبح الأيادي الآثمة التي أشرفت ونفذت الاغتيال ستستمر في كتابة فصل جديد من الفوضى والتبعية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews