ما بعد الحرب… الفراغ الذي صنع القوة

ممدوح ساتي -مراسلين
صمد المواطن الفلسطيني في غزة كما لم يصمد شعبٌ من قبل. وسط الركام، وتحت القصف، وبين جثث أحبّائه، ظل يرفع رأسه متحديًا آلة الحرب الأشد فتكًا في الشرق الأوسط.
لم يكن يملك سلاحًا مقارنة بعدوه، سوى صبره وإيمانه، لكنه بذلك الصبر العجيب هزم كل المخططات، وجعل عدوه يتمرغ في وحل الهزيمة السياسية والإعلامية، بعد أن عجز عن تحقيق انتصار عسكري رغم الدعم اللامحدود والآلة التدميرية التي سخّرها.
انتهت الحرب… أو هكذا يُقال. غير أن السؤال الذي يعلو الآن هو: ثم ماذا بعد؟ ما الذي سيحدث في اليوم التالي للهدوء؟ من سيملأ هذا الفراغ الكبير الذي خلفته الحرب؟
المشهد السياسي بعد الحرب: سلطة بائسة على أنقاضها
تتجه الأنظار إلى الضفة الغربية، حيث تبدو السلطة الفلسطينية غارقة في أزمتها الأبدية.
محمود عباس، الذي يتشبث بكرسي السلطة منذ عقدين، يبدو اليوم أكثر عزلة وبُعدًا عن نبض الشارع الفلسطيني، هو ومن حوله يعيشون على فتات القضية نفسها، يقتاتون من رمادها ويستثمرون في جراحها، بينما فقدت السلطة معظم شرعيتها الأخلاقية والشعبية.
في نظر كثيرين، لم تعد فتح بقيادة عباس تمثل الحلم الوطني أو حتى الحضور التاريخي الذي كان ، الفساد، والجمود السياسي، والتبعية الأمنية، كلها عناصر جعلت السلطة تبدو كجهاز إداري يعيش على الهامش، لا كقيادة لشعب تحت الاحتلال.
ثم يظهر السؤال الأخطر: أين البديل؟
في هذه اللحظة الحرجة، يعود اسم مروان البرغوثي من بين جدران السجن ليذكّر الجميع بأن ثمة بديلًا ممكنًا، وأن الكاريزما التي غابت عن فتح لا تزال حية في مكان ما خلف القضبان، لكن إطلاق سراح البرغوثي لم يكن أبدًا أمرًا سهلاً أو مرغوبًا به ، لا من إسرائيل، ولا من السلطة، وربما لا من حماس أيضًا.

الرمز الغائب الذي يخيف الجميع
البرغوثي، في جوهره، هو الرمز الذي يخشاه الجميع.
إسرائيل لا تريد له أن يوحّد الصف الفلسطيني في لحظة تفتّت. والسلطة تخاف أن يفضح بوجوده هشاشتها وفسادها.
أما حماس، فهي تدرك أن خروجه قد يسحب من تحتها بساط الشرعية الشعبية، لأنها منذ غيابه ملأت الفراغ بحرفية، وأعادت تعريف المقاومة بوصفها هويتها الخاصة.
بذكاءٍ سياسي متراكم، نجحت حماس في إدارة هذا الفراغ ، لم تحتج إلى إعلان نوايا أو مؤامرة مكشوفة، بل اكتفت بترك الأحداث تسير في اتجاه يخدمها.
فكل صفقة أسرى لا تشمل البرغوثي تُعزز سرديتها: أنها وحدها القادرة على الإنجاز، وأن غيرها غارق في حساباته الصغيرة.
إدارة الفراغ: معادلة باردة بذكاء حار
الفراغ السياسي الذي تركه البرغوثي لم يكن مجرد غياب شخص، بل غياب مشروع وطني جامع. ومن يملأ هذا الغياب يملك الوعي العام، والإعلام، والسرد السياسي. وهنا تفوقت حماس. فبفضل قدرتها على تحويل المعاناة إلى سردية، نجحت في أن تجعل من نفسها الممثل الوحيد لآمال الفلسطينيين في التحرر، ولو كان الثمن عزلة سياسية دولية.

الشعب… مرة أخرى في المقدمة
ومع ذلك، يبقى الشعب الفلسطيني هو البطل الحقيقي لكل فصول الحكاية.
فبرغم الانقسام، والخذلان، والفساد، والقصف، ينهض من تحت الركام ليعيد ترتيب وعي الأمة كل مرة. هو من يملك القرار الأخير، وهو من سيحسم مستقبل القضية ، لا حماس وحدها، ولا فتح، ولا إسرائيل.
سؤال المستقبل
إذا خرج البرغوثي غدًا، فقد تنقلب الموازين، وقد تعود فتح إلى مركزها الطبيعي.
أما إن بقي غائبًا، فستواصل حماس تثبيت سيطرتها الرمزية والسياسية على المشهد.
وبين هذين الاحتمالين، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع الفلسطيني أن يستعيد قضيته من بين أنياب الانقسام والفساد، كما استعاد صموده من تحت الدمار؟
