مقالات

الشرع في موسكو رحلة إلى قلب اللغز الروسي

بقلم : وليد شهاب

في صباحٍ موسكيّ بارد، حيث يلف الضباب أبراج الكرملين الشاهقة، هبطت الطائرة التي تحمل على متنها رمزا لمرحلة جديدة في تاريخ سوريا الحديث. في لحظةٍ تاريخية مفصلية، تطأ قدم الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، الأراضي الروسية في أول زيارة خارجية منذ استلامه مهامه، محمّلاً بأعباء ماضٍ ثقيل وآمال مستقبل ينتظر البناء.

لم تكن تلك مجرد زيارة روتينية لرئيس دولة، بل كانت محطة تستدعي قراءة متأنية في ظلال كل حركة وكلمة، في حوارٍ صامت بين السطور، يحمل في طياته إشارات على تحولات جيوسياسية قد تعيد رسم خريطة التحالفات في منطقة مضطربة منذ أكثر من عقد.

الاستقبال الرسمي في مطار فنوكوفو الدولي لم يحمل مظاهر البهرجة المعتادة في الاستقبالات بين الحلفاء القدامى، بل كان موجزًا بمشاعر مختلطة من الحذر والترقب. العلمان السوري والروسي يرفرفان معًا تحت سماء غائمة، مشكلين صورة مجازية عن علاقة شائكة تمر بمرحلة إعادة تعريف.

الرئيس الشرع، ببدلته الرصينة وابتسامته الهادئة، بدا واعيًا تمامًا لثقل اللحظة. نظراته المتأملة بينما كان يصافح الوفد الروسي لم تخلُ من تأمل عميق، كما لو كان يقلب في ذاكرته صفحات من تاريخ علاقة بلاده بموسكو، تلك العلاقة التي شكّلت مصير سوريا بطرقٍ لا تُحصى.

من ناحية أخرى، يمثل هذا اللقاء اختبارًا حقيقيًا لمرونة الدبلوماسية الروسية التي وجدت نفسها في موقف بالغ الحساسية. فمن جهة، هناك التزام تاريخي وعسكري استراتيجي، ومن جهة أخرى، هناك متطلبات مرحلة جديدة تفرضها تحولات المشهد السوري والدولي

الجدير بالملاحظة أن البيان الصادر عن الكرملين قد صيغ بعناية فائقة، مشددًا على مناقشة “الوضع الراهن وآفاق تطوير العلاقات في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والإنسانية”. هذه العبارات، رغم ما تبدو عليه من روتينية دبلوماسية، تحمل بين طياتها إمكانية قراءات متعددة، خاصة في ظل الحديث عن “آفاق التطوير” الذي قد يتضمن مراجعة لطبيعة العلاقة القائمة.

المفارقة اللافتة تكمن في تزامن هذه الزيارة مع تأجيل القمة العربية-الروسية، وهو ما يثير تساؤلات حول أوليات الجدولة الدبلوماسية الروسية. هل يشير هذا إلى أن الملف السوري يحظى بأولوية خاصة في هذا التوقيت بالذات؟ أم أن الظروف الإقليمية المتشابكة، خاصة في غزة، فرضت إعادة ترتيب للأوراق؟

اللافت أيضًا أن الزيارة تتضمن لقاءً مع الجالية السورية في روسيا، وهي خطوة تحمل دلالات رمزية مهمة. فالجالية السورية في المنفى تمثل جزءًا من ذاكرة الوطن الغائب، وشاهدًا على سنوات من المعاناة والانقسام. اختيار الرئيس الشرع لقاءهم يرسل رسالة واضحة بأن المرحلة الجديدة تهدف إلى جسر الهوة واستعادة اللحمة الوطنية.

لكن الزيارة تحمل في طياتها عنصرًا أكثر إثارة، وفقًا لما نقلته مصادر مطلعة لوكالة “رويترز”، وهو أن الرئيس الشرع قد يطلب رسميًا تسليم رئيس النظام السوري المخلوع، بشار الأسد، اللاجئ في موسكو، لمحاكمته بتهم تتعلق بارتكاب جرائم بحق السوريين

هذا البعد من الزيارة، إذا ما تأكد، يضفي عليها طابعًا دراميًا استثنائيًا. فمن النادر في العلاقات الدولية أن يطلب رئيس من حليف استراتيجي سابق تسليم سلفه المخلوع. هذه الخطوة، إن حدثت، ستشكل سابقة في الدبلوماسية العالمية، وستضع روسيا في موقف بالغ الحساسية، بين الالتزام بمواثيق حقوق الدولية من ناحية، والولاء لتحالف استراتيجي سابق من ناحية أخرى.

كما أن المباحثات المزمع إجراؤها حول وجود القاعدتين الروسيتين في سوريا، الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس، تمس صميم الوجود الاستراتيجي الروسي في المنطقة. هذه القواعد لم تكن مجرد منشآت عسكرية عادية، بل كانت رموزًا للنفوذ الروسي في المتوسط، وأدوات فعلية في تغيير موازين القوى الإقليمية.

من الواضح أن الرئيس الشرع يأتي إلى موسكو وهو يدرك أن المهمة ليست سهلة. فروسيا، برغم كل التحولات، تبقى حريصة على مصالحها الاستراتيجية، وقد لا تكون مستعدة للتخلي عن أوراق مهمة مثل القواعد العسكرية بسهولة. لكن الزيارة نفسها تمثل اعترافًا روسيًا بالواقع الجديد في سوريا، واستعدادًا للتعامل مع سلطات المرحلة الانتقالية.

الخلفية التاريخية للعلاقات بين البلدين خلال الأشهر الماضية تشير إلى حوار متدرج بدأ على مستوى وزارتي الدفاع والخارجية، وصولاً إلى مستوى القمة. زيارة وفد وزارة الدفاع السورية في مطلع تشرين الأول، واللقاءات المتعددة لوزير الخارجية أسعد الشيباني مع المسؤولين الروس، كلها كانت تمهيدًا لهذا اللقاء التاريخي.

تصريحات الوزير الشيباني السابقة التي وصف فيها العلاقة مع روسيا بأنها “عميقة ومرت بمحطات صداقة وتعاون، لكن لم يكن التوازن فيها حاضرًا”، كانت تشير إلى نقد ضمني لطبيعة العلاقة في الماضي، وتلميحًا إلى رغبة في شراكة أكثر توازنًا في المستقبل.

الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيسين في شباط الماضي، ودعوة بوتين للشيباني لزيارة موسكو، كانت إشارات واضحة على أن روسيا ترغب في الحفاظ على وجودها ونفوذها في سوريا، لكن في إطار جديد يتناسب مع المتغيرات.

تأكيد بوتين في ذلك الحين على دعم بلاده “لوحدة الأراضي السورية وسيادتها واستقرارها”، وإبداء استعداد بلاده “لإعادة النظر في الاتفاقيات التي أبرمتها روسيا مع النظام السوري السابق”، كانا بمثابة اعتراف ضمني بضرورة مراجعة طبيعة العلاقة بين البلدين.

لكن التحدي الأكبر يتمثل في كيفية تحقيق مصالحة بين المصالح الروسية الثابتة في المنطقة، والرغبة السورية في علاقة أكثر توازنًا تحترم السيادة والكرامة الوطنية. روسيا تريد الحفاظ على وجودها الاستراتيجي في البحر المتوسط، بينما تريد سوريا الجديدة تأكيد سيادتها واستقلال قرارها.

المسألة ليست مجرد تفاوض بين طرفين، بل هي اختبار لنموذج جديد من العلاقات الدولية، حيث لا تهيمن قوة عظمى على دولة أصغر، بل تتعاونان على أساس المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل.

الرئيس الشرع يمثل جيلًا جديدًا من القيادة السورية، جيلًا لم يكن جزءًا من حروب الماضي وصراعاته، لكنه يتحمل مسؤولية التعامل مع إرثه الثقيل. نظراته الهادئة وطريقته المتزنة في التعبير تخفي تحتها إرادة صلبة، وإدراكًا عميقًا لتعقيدات المهمة التي بين يديه.

من جهة أخرى، الرئيس بوتين، الخبير بدهاليز السياسة الدولية، يدرك أن العالم يتغير، وأن التحالفات القديمة لم تعد كافية لمواجهة تحديات العصر. تعامله مع الملف السوري سيكون مؤشرًا مهمًا على مدى مرونة السياسة الروسية وقدرتها على التكيف مع المتغيرات.

الزيارة، في نهاية المطاف، هي أكثر من مجرد لقاء بين رئيسين، إنها لحظة مفصلية في تاريخ علاقة استمرت لعقود، مرت بمراحل من المد والجزر، لكنها تبقى واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا وإثارة في السياسة الدولية.

العيون تتجه اليوم نحو موسكو، حيث تجري المباحثات خلف الأبواب المغلقة، في قاعات الكرملين التي شهدت على مدى التاريخ مفاوضات غيرت مصائر أمم. الكلمات المتبادلة، والنظرات الخاطفة، وحتى الصمت بين الجمل، كلها تحمل دلالات تحتاج إلى قراءة متأنية

الرئيس الشرع يعرف أن شعبه يتطلع إليه بآمال كبيرة، ينتظرون منه أن يفتتح صفحة جديدة في علاقة بلادهم مع العالم، صفحة تقوم على الكرامة والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. وهو يدرك أن الطريق لن يكون مفروشًا بالورود، لكن مجرد الجلوس إلى طاولة المفاوضات كندٍّ لندّ يعد إنجازًا بحد ذاته.

أما الرئيس بوتين، فيعرف أن التعامل مع سوريا الجديدة يتطلب حكمة وحنكة، فروسيا لا تريد خسارة حليف استراتيجي في منطقة حيوية، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع تجاهل التحولات الكبيرة التي تشهدها الساحة السورية والدولية.

الزيارة، في عمقها، تمثل حوارًا بين ماضٍ حاضر بقوة، ومستقبل يطرق الأبواب بعناد. هي محاولة للجمع بين متطلبات الاستمرارية ومتطلبات التغيير، بين ثقل التاريخ ونداء المستقبل.

عندما يغادر الرئيس الشرع موسكو، ستحمل حقيبته أكثر من مجرد اتفاقيات وبيانات مشتركة، ستكون حمولة الرحلة ثقيلة برموز ودلالات، بإشارات واضحة وأخرى خفية، بنتائج ملموسة وأخرى تحتاج إلى وقت لتتكشف.

العالم ينتظر ليرى ما ستسفر عنه هذه الزيارة التاريخية، التي قد تكون بداية لفصل جديد في العلاقات السورية-الروسية، أو قد تكون مجرد محطة أخرى في رحلة طويلة من التفاوض والمساومة.

شيء واحد مؤكد: تاريخ العلاقات بين الدول يكتبه القادة بلقاءات مثل هذه، حيث تلتقي الإرادات، وتتصارع المصالح، وتولد من بينها حقائق جديدة. والرئيس الشرع، برحلته هذه، يكتب فصلاً جديدًا في تاريخ سوريا، فصلاً نأمل أن يكون أكثر إشراقًا من سابقيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews