الأمن الإنساني في زمن الحروب: الهجرة، الجوع، وانهيار مؤسسات الدولة

بقلم : آلاء أسيل بو الأنوار
حين تندلع الحروب، لا تكون الخسائر محصورة في ميادين القتال، بل تمتد إلى كل زاوية من حياة الإنسان.
من فقدان المأوى، إلى انعدام الغذاء، إلى غياب الأمن والخدمات الأساسية — تتحول حياة المدنيين إلى صراع يومي من أجل البقاء.
لقد كشفت النزاعات الحديثة في الشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا الشرقية أن أكبر ضحايا الحروب ليسوا الجنود بل الشعوب، وأنّ الأمن الإنساني بات المفهوم الأوسع الذي يتجاوز حماية الحدود إلى حماية الإنسان نفسه من الجوع، والمرض، والتهميش، والاقتلاع من الجذور.

أولًا: من الأمن القومي إلى الأمن الإنساني
تغيّر مفهوم الأمن بعد الحرب الباردة من التركيز على الدولة ككيان سياسي إلى التركيز على الإنسان كقيمة مركزية.
فالأمن الإنساني — كما حدده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 1994 — يقوم على سبعة أبعاد رئيسية:
ـ الأمن الاقتصادي ـ الأمن الغذائي ـ الأمن الصحي ـ الأمن البيئي ـ الأمن الشخصي ـ الأمن المجتمعي ـ الأمن السياسي
غير أن الحروب المعاصرة جعلت هذه الأبعاد كلها عرضة للانهيار المتزامن، إذ لم تعد تهدد فقط السيادة الوطنية، بل تفكك النسيج الاجتماعي وتدمر البنى الاقتصادية والخدمية التي يقوم عليها الاستقرار الإنساني.
ثانيًا: الهجرة والنزوح… الوجه الإنساني المأساوي للصراعات
يُعتبر النزوح القسري أحد أبرز مظاهر انهيار الأمن الإنساني.
فوفقًا لتقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) لعام 2024، بلغ عدد المهجّرين قسرًا في العالم حوالي 120 مليون شخص — وهو أعلى رقم في التاريخ الحديث.
وتأتي إفريقيا والشرق الأوسط في مقدمة المناطق المتأثرة، حيث تشهد دول مثل السودان وسوريا واليمن والكونغو موجات نزوح مستمرة بسبب النزاعات المسلحة.
الهجرة في هذه الحالات لا تمثل مجرد انتقال جغرافي، بل هي انهيار كامل لمنظومة الحياة الإنسانية:
فقدان التعليم والصحة والمسكن.
ضياع فرص العمل والدخل.
تفكك العائلات والشبكات الاجتماعية.
كما تتحول الهجرة إلى أزمة إقليمية ودولية، حين تتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى الدول المجاورة التي تعاني أصلًا من ضعف البنى التحتية والموارد.
ففي منطقة الساحل الإفريقي، على سبيل المثال، تسبب تداخل العوامل الأمنية والمناخية في تهجير أكثر من 4.5 ملايين شخص داخل المنطقة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وفق تقارير الاتحاد الإفريقي.
ثالثًا: الجوع وانعدام الأمن الغذائي

تُعد الحروب العامل الأول لانعدام الأمن الغذائي في العالم.
فهي تدمر الأراضي الزراعية، وتعطل سلاسل الإمداد، وتدفع بالملايين إلى العوز.
ووفقًا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأغذية العالمي(WFP) لعام 2024، يعيش أكثر من 281 مليون شخص في العالم في حالة “انعدام أمن غذائي حاد”، بسبب النزاعات في المقام الأول.
في السودان، مثلاً، أدى النزاع المسلح الذي اندلع في 2023 إلى حرمان نحو 25 مليون شخص من الغذاء الكافي، أي نصف سكان البلاد تقريبًا.
وفي اليمن، يعيش أكثر من 17 مليون شخص على المساعدات الإنسانية، بينما تتعرض المدن السورية لانقطاع الإمدادات الزراعية والمائية بشكل مستمر.

إنّ الجوع هنا ليس نتيجة طبيعية للأزمات، بل أداة من أدوات الحرب، إذ تستخدم بعض الأطراف الحصار والتجويع كسلاح سياسي وعسكري، مما يجعل الأمن الغذائي جزءًا من معركة البقاء.
رابعًا: انهيار مؤسسات الدولة… الوجه الآخر للفوضى
حين تطول الحروب، تضعف قدرة الحكومات على تقديم الخدمات الأساسية.
يتآكل النظام الإداري، وتنهار البنى التحتية، وتتفكك الأجهزة الأمنية والمؤسسات الاجتماعية.
ويؤدي هذا الانهيار إلى دوامة خطيرة: فضعف الدولة يغذي النزاع، والنزاع يفاقم ضعف الدولة.
وفق البنك الدولي، خسرت سوريا منذ 2011 ما يفوق 226 مليار دولار من ناتجها المحلي الإجمالي، أي ما يعادل أربعة أضعاف اقتصادها السنوي قبل الحرب.
وفي ليبيا، تسبب الصراع المستمر في تراجع إنتاج النفط بنسبة 70% بين عامي 2014 و2020، مما أدى إلى شلل اقتصادي ومؤسساتي واسع.
أما في السودان، فقد أدت الحرب الأخيرة إلى توقف أكثر من 80% من المنشآت الصحية عن العمل، وتهديد منظومة التعليم بأكملها.

إن انهيار الدولة في زمن الحرب لا يعني فقط غياب السلطة، بل غياب العقد الاجتماعي بين المواطن ومؤسساته، حيث يفقد الناس الثقة في قدرة الدولة على حمايتهم وتلبية احتياجاتهم الأساسية، فيتراجع الشعور بالانتماء الوطني، وتنهار الروابط الاجتماعية التي تشكل أساس الاستقرار.
وفي ظل هذا الفراغ، تظهر الولاءات البديلة — القبلية، الطائفية، أو الميليشياوية — لتحل محل مؤسسات الدولة، فتتحول المجتمعات إلى جزرٍ من الخوف والعزلة والشك المتبادل.
إنّ أخطر ما في انهيار الدولة ليس الدمار المادي، بل تفكك المعنى الجمعي للوطن، حين يصبح البقاء غايةً فردية لا جماعية، وتُستبدل فكرة “المواطنة” بمنطق “النجاة الشخصية”.
وهكذا، يتحول الإنسان من مواطنٍ فاعلٍ في وطنه إلى ضحيةٍ تائهةٍ في عالمٍ بلا حماية ولا يقين.



