مقالات

سلسلة قصص من الألم إلى الأمل ثم النجاح..نموذج عن المرأة السورية في ظل الثورة السورية

بقلم: أنس الشيخ أحمد – مراسلين

القصة الأولى :
مياسة الشيخ أحمد

“من الغَسق إلى الغروب”
من فجر الحرية، إلى غياب شمس الطغاة .
ومن قصص الألم يولد الأمل ويكتب النجاح بيدٍ ثائرة تكتب أول حروف العدالة على دفتر الحياة”””

النشأة والبدايات:
جذور الأمل في أرض الحكايات

في بلدة تلمنس بمحافظة إدلب، بين بساتين الزيتون التي تحفظ عبق التراب وذاكرة الأجداد، نشأت مياسة الشيخ أحمد.
في عائلة كريمة ثائرة.
كانت ابنة الريف البسيط، حيث تتشابك يد الأرض مع يد الإنسان، وحيث تُروى القلوب بالمحبة والدفء رغم شح الإمكانات.
منذ طفولتها، كان في عينيها بريق يسبق عمرها، وفي قلبها إصرار على أن العلم طريق الخلاص.
درست بجد، وتفوقت، ثم عادت لتعلّم أبناء قريتها، مؤمنة أن المعرفة هي أولى شرارات الحرية.

الثورة… بين ألم وأمل

حين اندلعت الثورة السورية، لم تكن مجرد حدث سياسي بالنسبة لها، بل كانت يقظة ضمير شعبٍ طال صمته. كانت تسمع قصص النساء الحرائر والخنساوات، وتقرأ عن بطولات لا تعرف التراجع.
الحي الذي تسكنه مياسة كان من أوائل الأحياء التي استُهدفت بكل أنواع السلاح، حتى بالسلاح الكيميائي، لتتحول البيوت إلى رماد والسماء إلى غيمة من الدخان.

ومع اشتداد آلة بطش نظام بشار الأسد النظام البائد الخائن والقاتل، وضمن حملة تهجير جماعي
في تلك الأيام، فقدت مياسة بيتها، كتبها، وصور طفولتها، لكنها لم تفقد الإيمان. كانت تمشي بين الركام وهي تردد في قلبها:

“وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.”

شتاء الفقد… رحيل محمد

في شتاء حزين، فقدت مياسة رفيق دربها وزوجها محمد مرعي المرعي، أحد أوائل الناشطين في الثورة، ورجلًا من طينةٍ نادرة ،لا يعرفه الا الرجال الأحرار

كان محمد من مؤسسي التنسيقيات الثورية في إدلب، من أولئك الذين آمنوا بالكلمة قبل البندقية، وبالعدالة قبل الانتقام.

في إحدى القرى ، اختفى مع بعض من أصدقائه ،حواجز النظام وآلة البطش كانت تحاصر الأحرار ، وبقي أثره يرافقها كنبضٍ لا يهدأ.
محمد قصة من قصص البطولة ،شهم ،وبطل ،ذلك الرجل النبيل أحتاج الكثير حتى أعطيه حق الوصف.
كانت تسمع عن الخنساوات، عن صبر النساء اللواتي قدّمن أغلى ما يملكن في سبيل وطنٍ حر، لكنها لم تدرك معنى ذلك الصبر حتى عاشت الفقد في قلبها، حتى تكسرت الليالي على صدى اسمه.

التهجير والرحيل… بين الغربة والمقاومة

اضطرت مياسة إلى الرحيل مع أطفالها، بعد أن ضاق المكان بكل ما فيه.
قصف لا يتوقف ،وطيران ،وآلة بطش لا ترحم انه نظام الأسد وحلفائه وأذنابه، لا يريدون الا الانتقام من أصوات الحرية .

حملت معهم ما تبقى من ذكريات، وبعض الدفاتر المدرسية، ومفتاح بيتٍ لم يعد موجودًا.
في المدينة الجديدة، واجهت حياة لا تعرف الرحمة: شتاء قارس، غلاء المعيشة، وأم تكافح لتؤمن لأطفالها الطعام والدفء والتعليم. كانت تعمل في النهار وتدرس في الليل، تحيك من تعبها حلمًا جديدًا، وتحاول أن تغرس في أطفالها الثقة بأن الوطن لا يُقاس بالمكان، بل بالانتماء والكرامة.

زلزال شباط… الرعب والفقد من جديد

في عام الزلزال المدمر، عادت المأساة لتطرق بابها من جديد. تلك الليلة كانت كابوسًا لم ينجُ منه قلب. أصوات الانهيار، صراخ الأطفال، والبرد الذي كان يتسلل حتى إلى الأرواح.

فقدت مياسة في تلك الكارثة عمّها الوحيد، الذي كان بمثابة الأب بعد وفاة والدها. كان ركيزتها وسندها، فانهار جزء من عالمها مرة أخرى. ومع كل ألم جديد، كانت تردد لنفسها:

“إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.”

لم يكن ترديدًا للحروف، بل إيمانًا بأن الصبر طريق النجاة، وأن الألم لا بد أن يُثمر أملًا.

صيدنايا… بين الصدمة والبحث عن الحقيقة

لم تهدأ رحلة البحث عن محمد. دخلت مياسة عالم سجن صيدنايا من بوابة الأمل، لا من الأبواب الرسمية. كانت تجمع شهادات، تتتبع الأسماء، تزور العائلات، تسأل الحراس السابقين، تبحث عن أي إشارة، عن أي أثر.

كل صورة، كل ورقة، كل صمت كانت تقرؤه بعين الباحثة والأرملة والإنسانة.
كانت تقول لنفسها: “ربما لن أجد محمد، لكنني سأجد الحقيقة.”
وفي أروقة صيدنايا، حيث تختلط رائحة الحديد بالخوف، وصرخات الذاكرة بالرجاء، قررت أن تكون صوتًا لكل من صمتت عنهم الجدران.

الدراسة والوعي… من الألم إلى المعرفة

رغم قسوة الأيام، أكملت مياسة دراستها الجامعية بتفوق، ودرست القانون الدولي لتفهم كيف يمكن تحويل الألم إلى عدالة.

كانت تعلم أن التوثيق ليس مجرد عمل بحثي، بل مقاومة من نوع آخر. فأنشأت مع مجموعة من النساء روابط للضحايا والمعتقلين وأسرهم، لتكون نواة لصوتٍ وطني يطالب بالإنصاف والمساءلة.

تحولت تجربتها إلى مشروع وطني صغير، يجمع الشهادات ويرسم خريطة الذاكرة السورية من منظور نساءٍ حملن الوجع ولم يستسلمن له.

التحرير والنجاح الوطني

ومع بزوغ فجر التحرير، لم تتأخر مياسة عن واجبها الوطني. التحقت بفريق الهيئة الوطنية للمفقودين كمستشارة، تجمع بين الخبرة الميدانية والمعرفة الأكاديمية، لتسهم في كتابة فصل جديد من العدالة السورية.

كل ملف تعمل عليه، كل قصة توثقها، كانت تشعر أنها تقترب من وعدٍ قطعته لمحمد ولجميع المفقودين: أن يكون لهم يومٌ تُقال فيه الحقيقة.

” من رماد الحرب إلى ضوء الأمل”

اليوم، تُعتبر مياسة نموذجاً للمرأة السورية التي لم تنكسر رغم كل شيء. فقدت زوجها، وبيتها، وعمّها، لكنها لم تفقد الإيمان بالإنسان.
قصتها ليست فقط حكاية ألم، بل شهادة على قدرة الروح على النهوض، على أن الثورة الحقيقية تبدأ حين نختار أن نحيا رغم الخسارات.
في نهاية كل طريق كانت تقول بهدوء:

“أنا لست ضحية الحرب، أنا ابنتها الناجية، وسأروي حكايتنا حتى يسمعها العالم.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews