مقالات

سلسلة: من الألم إلى الأمل ثم النجاح

بقلم: انس الشيخ احمد

القصة الثانية: حسن الفجر

الفجر يبصر طريق النور بعد ظلامٍ طويل

النشأة: جذور في أرض الحكاية

نشأ حسن الفجر في قرية صغيرة متربعة على سفح جبلٍ يطلّ على سهول حماة الخضراء. كان الطفل الهادئ الذي يعشق الأرض، يتتبع خُطى والده بين أشجار الزيتون، ويصغي إلى حكايات الكبار عن الشرف والكرامة. في بيتٍ بسيطٍ تفوح منه رائحة الخبز والتعب، تعلم أن الحياة لا تُعاش إلا بكرامة، وأن الإنسان بلا حرية كالشجرة بلا جذور.

كانت طفولته امتدادًا لصوت الريف الصادق، وملامحه تشبه تراب المكان الذي أنجبه — صادق، صلب، وعصيّ على الانكسار.

بداية الثورة: حين صدح الصوت الأول

حين اندلعت شرارة الثورة السورية، كان حسن في مقتبل شبابه. خرج إلى الشوارع يهتف مع رفاقه: “حرية… كرامة… عدالة”. لم يحمل سلاحًا، بل حمل صوته وإيمانه.
ومع كل هتافٍ كان يشعر أنه يكتب سطرًا جديدًا في تاريخ بلاده.
لكن النظام لم يغفر له ذلك الصوت، فسرعان ما أصبح اسمه على قوائم المطلوبين، ليتحوّل الحلم إلى مطاردةٍ، والميدان إلى فخٍّ كبيرٍ لكل من حلم بالحرية.

الاعتقال: صيدنايا… مقبرة الأحياء

في صباحٍ رماديٍّ، اعتُقل حسن عند أحد الحواجز. لم يكن يعلم أن الرحلة التالية ستكون إلى أكثر الأماكن رعبًا في ذاكرة السوريين: سجن صيدنايا، مقبرة الأحياء، حيث تُدفن الأصوات في الجدران.

هناك، واجه كل ما يمكن أن يهزم الإنسان — الجوع، والبرد، والمرض، والعزلة.
رأى رجالًا يلفظون أنفاسهم من شدة الخوف، وآخرين يتمنّون الموت ولا يقدرون عليه. ومع ذلك، ظلّ يقول في داخله:
“سأعيش… ليس لأني لا أخاف، بل لأن الخوف لن يكون النهاية.”

حياة داخل صيدنايا: الصبر امتحان الروح

في ذلك الجحيم الذي لا تشرق فيه الشمس، كانت الإرادة وحدها نافذته الوحيدة.

بدأ حسن يروي لرفاقه القصص كي يسرق من الزمن بعض الرحمة. علّمهم القراءة، وكتب بالحجارة على الجدران أبياتًا عن الحرية.
كانوا يقولون له: “كيف تبتسم وسط كل هذا الألم؟”

فيجيب: “الابتسامة مقاومة… والذكرى سلاح.”
هكذا عاش، وهكذا أنقذ نفسه من الجنون، حين جعل الخيال وطنًا بديلًا ينتظر أن تُفتح أبوابه.

عندما تفتح الأبواب: لحظة الميلاد من جديد

وفي صباحٍ لم يشبه أي صباح، دوّى صوت الحديد وهو يُفتح… باب الزنزانة يصرخ، والضوء يتسلّل مثل وعدٍ سماوي.

نادى السجّان اسمه، فتقدّم بخطواتٍ مترددة، كمن يولد من جديد.
تنفّس الهواء البارد بشغف طفلٍ يرى النور لأول مرة، وبكى بلا صوت، كأن الدموع وحدها تفهم ما مرّ به.
كانت تلك اللحظة عنوانًا لرحلته القادمة — رحلة ميلادٍ بعد موتٍ طويل.

الحرية من جديد: عودة الروح إلى الجسد

خرج حسن من السجن بوجهٍ أنهكه العذاب، لكنه يحمل في عينيه ضوءًا عميقًا لا يشبه أحدًا.

احتضن أمّه طويلاً حتى اختلط البكاء بالضحك. عاد إلى قريته فوجدها قد تبدّلت، والناس قد غيّرتهم الحرب، لكن داخله بقي وفيًّا لما آمن به: أن النور لا يُطفأ مهما طال الليل.

كان يتجوّل بين الحقول وكأنّه يسألها: “هل ما زلتِ تحفظين رائحة أيامي القديمة؟”
وفي قلبه كانت إجابة الأرض: نعم، فالأمل ما زال هنا.

من الألم إلى الكتابة: رواية “عندما تفتح الأبواب”

لم يمضِ وقت طويل حتى قرر حسن أن يواجه ماضيه بطريقته الخاصة — بالكتابة.

جلس أمام أوراقه، وبدأ يسرد تجربته في روايةٍ حملت عنوان “عندما تفتح الأبواب”، استوحاها من تلك اللحظة التي غادر فيها صيدنايا نحو الحياة.

كتب عن العذاب والخوف، عن الجوع والمرض، وعن الأصوات التي ماتت لتمنح الآخرين الحياة.
لكن الأجمل أنه كتب عن الأمل — عن ذلك الضوء الذي يفتح الأبواب المغلقة في أرواحنا.

تحولت الرواية إلى شهادة إنسانية عن وجع المعتقلين وإصرارهم على البقاء، ووجدت طريقها إلى معارض الكتب في إسطنبول وإدلب وبغداد، حيث تلقّاها القراء بالدهشة والدموع.

نحو التعافي والبناء: إرادة لا تموت

لم يكتفِ حسن بالكتابة، بل أراد أن يكون جزءًا من شفاء الآخرين.
أسّس مبادرة “تعافي”، مشروعًا إنسانيًا يهتم بتمكين الناجين والناجيات من الاعتقال، عبر برامج دعم نفسي وتدريب مهني تساعدهم على النهوض مجددًا.
كان يقول دائمًا:
“نحن لا نحتاج إلى من يشفق علينا، بل إلى من يؤمن أننا ما زلنا قادرين على الحياة.”

وفي كل جلسةٍ كان يشاركهم تجربته، ليبرهن أن الإنسان يمكنه أن يصنع من جراحه جناحين.

التحرر والنجاح: الفجر الذي انتصر

واصل حسن طريقه بثقةٍ وصبر، لا ينظر إلى الخلف إلا ليبتسم.
ومن ثمّ، عُيِّن مدير مكتب القنصل في مدينة حماة، في خطوةٍ كانت تتويجًا لمسيرة طويلة من العذاب والكفاح والعمل.

كان يقف كل صباحٍ أمام مكتبه، يلمح انعكاس وجهه في زجاج النافذة ويهمس لنفسه:
“كم من بابٍ أغلق في وجهي، لكني لم أتوقف عن طرقه حتى فُتح.”

فجرٌ يكتب الحياة من جديد

اليوم، حين تشرق شمس حماة على مبنى القنصلية، يبتسم حسن وهو يستعيد رحلته كاملة — من زنزانةٍ في صيدنايا إلى مكتبٍ يطلّ على المدينة.
لقد انتصر على الخوف، وكتب الأمل بدموعه، وأثبت أن من يزرع الصبر يحصد الحياة.

حسن الفجر لم يكن مجرد ناجٍ من المعتقل، بل كان فجرًا حقيقيًا أضاء طريق النور بعد ظلامٍ طويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews