
ريتا الأبيض – مراسلين
عند نقطة التقاء السماء الزرقاء بمياه البوسفور الهادئة، ينتصب قصر دولما بهشة كقصيدة معمارية لا تشيخ. قصرٌ يشبه رواية طويلة تتداخل فيها السلطة الفن والسياسة.
تفوح من جدرانه رائحة التاريخ الذي عاشه آخر سلاطين الدولة العثمانية، قبل أن يُسدل الستار على الإمبراطورية وتولد الجمهورية.

بُني القصر بين عامي 1843 و1856 بأمر من السلطان عبد المجيد الأول، الذي أراد أن يُقدّم للعالم صورة جديدة عن إسطنبول… مدينة تشق طريقها نحو الحداثة من بوابة العمارة الأوروبية. فجاء القصر لوحة تجمع بين روعة الباروك ورشاقة الروكوكو وهيبة الكلاسيكية الجديدة، ليصبح رمزًا لزمنٍ كان يتمايل بين الشرق والغرب.

تقول الروايات إن الذهب وحده الذي استخدم في تزيين القصر تجاوز 14 طنًا، وإن أكبر ثريا كريستالية في العالم تُضيء سقفه المهيب. أما السجاد، فهو بحر آخر يمتد على آلاف الأمتار من الحياكة الفاخرة، فيما تحرس الأعمدة الرخامية ممرات القصر كجنود يرفضون الانسحاب من الذاكرة.

يضم القصر 285 غرفة و46 صالة و6 حمّامات تركية، وكل زاوية فيه تحكي قصة. في الداخل، تتدلّى الثريات العملاقة من أسقف مرسومة بعناية، وتغمر القاعات نوافذ ضخمة تتقاطع عبرها الشمس مع انعكاس البحر. أما الحدائق، فهي عالم آخر؛ حدائق يتمايل فيها العشب على إيقاع النسيم، وتتوسّطها نوافير تعود إلى قرون، وكأنها تحاور الزوار بلغتها الخاصة.

لكن الجمال وحده لا يصنع التاريخ. فقد كان القصر مركزًا للأحداث الكبرى في سنوات الدولة العثمانية الأخيرة. هنا استُقبل السفراء، وهنا اتُّخذت القرارات الحساسة، وهنا عاش مصطفى كمال أتاتورك خلال زياراته إلى إسطنبول بعد تأسيس الجمهورية، وفي إحدى الغرف ذات الستائر الثقيلة… توقفت ساعته إلى الأبد عند التاسعة وخمس دقائق صباحًا من يوم 10 نوفمبر 1938. وما زالت ساعات القصر حتى اليوم متوقفة احترامًا لتلك اللحظة.

اليوم، يعبر الزائر بوابة القصر وكأنه يدخل حقبة كاملة. تتسع الخطوات في الممرات، ويتباطأ الزمن في القاعات، وتلمع الواجهات الحجرية تحت ضوء الشمس، بينما يواصل البحر في الخارج سرده الطويل.
قصر دولما بهشة ليس مجرد مبنى، بل ذاكرة محفوظة في حجر، وشاهد على نهاية حقبة وبداية أخرى. إنه المكان الذي تُقاس فيه الفخامة بمساحات الصمت، وتُقاس فيه القوة بوقع التاريخ، وتُقاس فيه الروح بقدرة الطرازين الشرقي والغربي على العيش في انسجام لا مثيل له.







