علوم وتكنولجيا

صناعة الرأي العام في دقائق.. كيف تدار عقولنا من خلال الأزمات؟

مولود سعدالله – مراسلين

تكاد لا تخلو اليوم أزمة تشهدها بلداننا العربية خاصة ، سياسية كانت أو اقتصادية ام اجتماعية أو حتى خلاف محلي بسيط يظهر فجأة على فيسبوك ، صفحات جديدة تنشأ بسرعة حملات تنتشر خلال ساعات، وتعليقات كثيفة تتبنى خطابا واحدا، إما لدفع فكرة معينة أو للطعن في شخصيات، أو لتشويه طرف سياسي، أو لخلق حالة غضب جماعي مبرمج ، أو على العكس للدعم والحشد .

خلال الأشهر و الأسابيع الماضية مثلا رصدت عدة دول عربية موجات رقمية مفاجئة تخص شأن ما اما حملات تهاجم مسؤولين أو فكرة ثم تختفي، صفحات تروج لنظريات مؤامرة مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية، وشبكات تعليقات متشابهة تضخم موقفا أو تستهدف فئة معينة ، أو حملات دعم ومساندة لمسؤول أو فكرة وترتكز أيضا في غالبيتها على نظرية المؤامرة ، أو بسبب خلاف محلي أو عقائدي أو فكري ، المثير للانتباه ليس سرعة الانتشار فقط بل تشابه الأسلوب ظهور مفاجئ، رسائل مكررة، نشاط مرتفع خلال ساعات محددة، ورواية جاهزة تريد إقناعك بأن “الجمهور كله رأى الحقيقة”.

هذا النمط ليس جديدا لكنه أصبح الآن جزءا ثابتا من إدارة الأزمات العربية على فيسبوك ومع ذلك هو نسخة طبق الأصل تقريبا مما حدث في تجارب دولية سبقتنا بسنوات.

مثل عام 2011 عام ” الربيع العربي ” نقطة تحول في فهم قوة الفضاء الرقمي، أين استخدم الفيسبوك آنذاك كأداة للحشد والتعبئة، سرعان ما تحول إلى ساحة صراع بين أطراف متعددة تسعى للسيطرة على “الرواية الأكثر انتشارًا” ، ونشير أنه يستعمل في ” الثورة والثورة المضادة ” .

تقرير معهد أوكسفورد للانترنت 2019 صنف عدة دول عربية ضمن أكثر الدول التي شهدت نشاطا مكثفا لما يسمى ” السلوك غير الأصيل المنسق” حيث تدار صفحات ومجموعات التعليق من جهات تحاول صناعة رأي لا يعكس الواقع، بل يعكس رغبة من يديرون الحملة ، بنا أصبح لاحقا يعرف بإسم الذباب الالكتروني .

عند مقارنة المشهدين العربي والغربي، يلاحظ أن الأساليب متشابهة إلى حد كبير، بينما تختلف الدوافع والرسائل.
في العالم العربي غالبا ما يكون الهدف خلق موجة واحدة مسيطرة تضخيم قضية، إسقاط شخصية، أو دفع الجمهور نحو اتجاه محدد. وتلاحظ هنا سرعة ظهور الصفحات، وحدة الخطاب العاطفي، وتركيزه على كلمات مثل ” الخيانة، المؤامرة، الظلم ” دون تقديم أدلة أو نقاش معمق.

أما في النموذج الغربي كما ظهر في انتخابات أميركا 2016 و2020 بحسب “نيويورك تايمز و معهد مساتشوستس للتقنية ” فيتم العمل بطريقة أكثر هدوءا وتعقيدا ليس لإيصال رأي واحد، بل لزرع الانقسام وإضعاف الثقة بالمنظومات والمؤسسات ، وهنا يكون المحتوى أقل عاطفية ولكن أكثر تأثيرا على الهوية والانتماء السياسي.

باختصار نفس الأدوات نفس المنصات ونفس نوع الحسابات ، لكن الرسائل تختلف : العربي يدفع الجماهير نحو اتجاه واحد، والغربي يوزع الجماهير على اتجاهات متناقضة.

أمثلة توضح الظاهرة

تونس انتخابات 2019

كشف مركز DFRLab عن مئات الصفحات التي عملت بتزامن وتبنت روايات متناقضة لإرباك الناخب ودفعه نحو الشك والمثير أن أسلوب نشرها وساعات النشاط يشبه أسلوب حملات أوروبية سابقة ، ما يدل على تشابه البنية المستخدمة عالميا.

الجزائر موجة مضادات اللقاح 2021

رصدت BBC Monitoring حملة ضخمة لصفحات ظهرت خلال أيام قليلة كررت الرسائل نفسها، وروجت لصور وأخبار غير دقيقة ولاحظ الباحثون أن هذه الصفحات تتبع نفس النمط المستخدم خلال حملة مضادة للقاح في دول شرق أوروبا، وكأن النموذج نفسه يعاد تشغيله في دول مختلفة.

الولايات المتحدة تدخلات 2016 المشهور

تقرير الكونغرس الأميركي وثق أكثر من 80 ألف منشور موجه من مزرعة معلومات روسية الأسلوب نفسه صفحات مجهولة، تعليقات مضخمة، روايات جاهزة.
التشابه هنا ليس مجرد صدفة، بل طبيعة عمل متوقعة عندما يتم استخدام منصة واحدة بتقنيات واحدة.

كيف تعمل هذه الصفحات؟

رغم اختلاف السياقات إلا أن الأسلوب العام يكاد يكون نسخة واحدة:

ظهور مفاجئ: صفحة لم تكن موجودة أمس تصبح اليوم ” قائد النقاش” أو صفحات يعاد تفعيلها .

ايضا ضخ تعليقات بكثافة استخدام حسابات جديدة أو أدوات لإنتاج آلاف التعليقات التي تمنح شعورا بوجود رأي عام متفق .

و صناعة رواية واحدة: لا نقاش حقيقي فقط قصة جاهزة.

كما تستغل لحظات حساسة : كلما ارتفعت حرارة الأحداث و زادت قوة التضخيم.

انا عن الأهم : وكيف يكتشف المستخدم أنه أمام توجيه رأي؟

يقترح مختصون مجموعة من الأسئلة البسيطة لكنها فعالة:

لماذا ظهرت هذه الحملة اليوم تحديدا؟ التوقيت أهم من المحتوى.

هل الرسائل متكررة؟ تكرار نفس الجملة في عشرات الصفحات علامة تحذير.

ما طبيعة الحسابات المعلقة؟ الحسابات الجديدة أو المزورة لا تعكس جمهورا حقيقيا.

ما مصدر الروابط؟ المواقع المجهولة غالبا ما ترتبط بغرف إدارة حملات.

تقول الباحثة كلير واردل :
” التعليقات الموجهة أخطر من الأخبار الكاذبة لأنها تمنح الوهم بأن الناس جميعا مقتنعون” .

ويضيف خبير الأمن السيبراني غراهام بروك DW :
“المستخدم العربي يحتاج إلى مهارة الشك المنطقي، لا لرفض كل شيء… بل لفهم من المستفيد “.

صناعة الرأي العام عبر فيسبوك أصبحت اليوم جزءا من معادلة السياسة والاجتماع والإعلام، مع صعود الذكاء الاصطناعي، ستصبح هذه الجيوش أكثر ذكاء وسيصبح الوعي الفردي أكثر “أهمية “، المعركة لم تعد بين صفحات بل بين وعي الفرد ومحاولات تشكيل وعيه ، وكلما كان المستخدم أكثر نقدا وتساؤلا قل تأثير أي حملة عربية أو غربية على نظرته للعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews