مقالات

“ياسر عرفات” كما رآه مرافقه الشخصي اللواء محمد الداية


بقلم : أحمد يوسف ضميري

قبل عدة أيام عرضت قناة مزيج على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي قناة تابعة لقناة العربية، الجزء الثاني والأخير من بودكاست يقدمه الصحفي عصمت منصور تحت عنوان (ما بعد السابع). وقد قدّم حلقة بعنوان: (كواليس وأسرار عن حياة ياسر عرفات) التقى فيها الحارس الشخصي لياسر عرفات، اللواء محمد الدايه، في ظل إحياء الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد ياسر عرفات (أبو عمار)، قائد الثورة الفلسطينية وأول رئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية.


افتتح البودكاست بالحديث عن محمد الدايه الذي وُلد وتربى في كنف ياسر عرفات، بحكم عمل والده (يوسف الدايه) كحارس شخصي لعرفات حتى وفاته، فاستكمل الابن ما بدأه والده بعد استشهاده. واستمر البودكاست في تناول عدة مواضيع في الحلقتين، حيث تحدثتا عن: حياة ياسر عرفات، وعلاقته بصدام حسين، ووينسون منديلا –بما شاهده–، وكواليس لقاءاته السرّية مع باراك وزوجة رابين عندما ذهب لتعزيتها، وعن دعمه لثورات التحرر ماديًا ومعنويًا، وبجوازات سفر مزوّرة وأخرى حقيقية لبعض الزعماء والثوريين. كما تحدث عن علاقته المباشرة بمروان البرغوثي ودعمه للانتفاضة الثانية، وزيارته لسوريا أول مرة بعد خروجه من لبنان، وزيارته لها بعد وفاة حافظ الأسد وكواليس تلك الزيارة.
لكن ما سأفصّله هنا هو ما رواه الدايه عن حياة ياسر عرفات التي عاشها عن قرب، إذ كشف عن جوانب عُرفت سابقًا وأخرى تُذكر لأول مرة. فقد أوضح أن ياسر عرفات (أبو عمار) لم يمتلك منزلاً شخصيًا طوال حياته، وأن البيت الذي أقام فيه في تونس كان مُلكًا لأحد التونسيين الذين تبرعوا به ليكون لاحقًا متحفًا يخلّد ذكراه. وكان المنزل مكوّنًا من طابقين: طابق أرضي يضم مكتبه، وطابق علوي توجد فيه غرفة نومه.
كان نظام حياته في تونس يبدأ باستيقاظه الساعة الثامنة صباحًا، يتفقد الجرائد ويقرأ المراسلات والأوراق الموجودة على مكتبه. أما الغداء فكان يأتيه من بيت حكم بلعاوي، والعشاء في الساعة العاشرة مساءً من بيت أبو المعتصم. ومن يحضر الغداء أو العشاء هما محمد الدايه أو المرافق الآخر عماد أبو الزكي فقط. وعند تناول الطعام، كان يأكل مع مرافقيه، وأحيانًا يكون معه خمسة عشر شخصًا. وكان الغداء من صنف واحد، أما إذا وُجد ضيف فكان يأمر بأنواع متعددة لإكرامه.
زواجه:
تزوج ياسر عرفات سرًا في تونس، وبقي ذلك سرًا لمدة ثلاث سنوات، حتى إن مرافقيه الشخصيين لم يعرفوا بالأمر، والوحيد الذي كان يعلم هو قائد الحرس الكابتن عدنان.
العودة إلى الوطن:
وعند عودته إلى الوطن، لم يكن أيٌّ من أفراد الحرس على علم بالتحضيرات المتعلقة باتفاق أوسلو، إلا أنهم لاحظوا كثرة الزيارات التي قام بها أحمد قريع ومحمود عباس إليه خلال تلك الفترة. ثم فوجئوا بياسر عرفات يقول لهم بشكل مباشر: “إحنا رايحين على فلسطين”.
ويذكر الدايه تفاصيل ترتيبات الدخول إلى فلسطين، ومنها رفض أبو عمار ارتداء واقي الرصاص، وخروجهم من تونس بالزي العسكري، وما جرى خلال وجودهم في الطائرة أثناء توجههم إلى مصر، حيث التزم أبو عمار الصمت منشغلاً بالتفكير. كما تحدث عن الحشود الكبيرة التي تجمعت لاستقباله عند وصوله، وغيرها من التفاصيل المهمة.
حياته في فلسطين:
في فلسطين تضاعف العبء على ياسر عرفات بسبب كثرة الضغوط السياسية وتعدد الزيارات والسفريات. وكان يحمل مسدسًا إضافة إلى سلاحه الشخصي “الشتيرن”، ويضعه إلى جانبه أثناء النوم، وقد أشهره مرتين أمام الإعلام: الأولى عندما أوقفه حاجز إسرائيلي، والثانية خلال حصار المقاطعة.
وكانت لعرفات ثلاث حقائب ثابتة: حقيبة تحتوي على أدويته، وأخرى فيها مخدته، وثالثة يُبقي فيها غياراته الداخلية. ولم يكن يملك سوى بدلتين؛ واحدة يرتديها وأخرى احتياط. أما جواربه فكانت في كثير من الأحيان مثقوبة، وكان يقوم بخياطتها بنفسه. ولم يحمل النقود أبدًا إلا جنيهًا فلسطينيًا واحدًا مخيطًا في جيبه. وكان محمد الدايه وعماد مسؤولين عن أغراضه الشخصية.

وعند نومه كان يطلب من مرافقيه إطفاء جميع الأضواء، ولم يكن مكان نومه يدل على أي قدر من الترف، حتى إنهم اكتشفوا مرة وجود فأر في الغرفة التي كان ينام فيها.
وكان عرفات حريصًا في سنواته الأخيرة على ختم القرآن الكريم عدة مرات في شهر رمضان، والمحافظة على صلاة الجماعة، وممارسة رياضة المشي يوميًا. كما أنه لم يكن يدخن، وكان يتجنب شرب القهوة لأنها من المنبهات.
ورغم مكانته، كان يرفض أن يُنادى بلقب “الرئيس”، ويفضّل أن يُنادى بلقب “الأخ”، بل إن توقيعه الرسمي كان: (الأخ/ ياسر عرفات). ومع ذلك فقد عُرف بعصبيته الشديدة، وكانت أقسى كلمة يوجهها لمرافقيه عند غضبه هي: “يا حمار”. وقد تضايق أحد الحرس من ذلك، فأجابه أبو عمار قائلاً: “أنا الحمار اللي بأشتغل 24 ساعة، أما إنت كر…”.
ومن أصعب المحطات التي واجهها ياسر عرفات في تلك الفترة –بحسب رواية الدايه– مفاوضات “كامب ديفيد”. فقد كشف الدايه بعض خفاياها، ومن أبرزها محاولة الرئيس الأمريكي كلينتون للضغط على عرفات كي يقبل بتسليم القدس، وهو ما رفضه رفضًا قاطعًا، الأمر الذي أدى إلى انهيار المفاوضات. ولم يكن عرفات وحده في موقفه هذا، بل سانده في الرفض كل من محمود عباس وأحمد قريع. وقد أدرك عرفات حينها زيف الادعاءات الأمريكية والإسرائيلية بشأن السلام، حتى إنه استيقظ ذات فجر في كامب ديفيد، وجلس على الكنبة مخاطبًا الدايه بقوله: “دول كذابين… معركتنا معهم ليوم الدين”.
علاقته بالقدس:
ومن الأمور المثيرة التي طرحها محمد الدايه، وهي علاقة ياسر عرفات بالمسجد الأقصى، فقد أخبره عرفات أنه أدى الصلاة في المسجد بعد احتلاله عام 1967م، فسمع ضباطًا وجنودًا إسرائيليين يضحكون باستهزاء، فقال في نفسه: “والله ما بدخل القدس إلا وهي محررة”
لذلك لم يدخلها أبدًا، وكان يدير وجهه عنها كلما مرّ بجانبها بالسيارة أو الطائرة. كما رفض عقد أي لقاء مع الإسرائيليين داخلها، فكانت الاجتماعات تُنظَّم في مدينة يافا بدلاً منها.
علاقته بحماس:
عند عودته إلى فلسطين، ازداد احتكاك ياسر عرفات بحركة حماس أكثر من أي وقت مضى. فقد روى الدايه تفاصيل مهمة حول ذلك، من بينها لقاءاته السرّية مع قادة الحركة، مثل: عبد العزيز الرنتيسي، وإسماعيل هنية، ومحمود الزهار. كما أكد رفض عرفات وضع الشيخ أحمد ياسين في السجن رغم الضغوط عليه، واكتفى بفرض الإقامة الجبرية عليه بناءً على طلب الشيخ نفسه، إضافة إلى اجتماعاته السرّية المتكررة معه، وما قدمه له من راتب كان يتسلمه ابنه، وإهداؤه قطعة أرض له تبرع بها لتكون مدرسة.
كما تحدث الدايه عن مشاركة ياسر عرفات في تشييع الشهيد عماد عقل، وما تعرّض له داخل المسجد حين أقدم أحد عناصر حماس على شدّ كوفيته وإسقاطها وسط هتافات مسيئة. ومع ذلك تغاضى عرفات عن الموقف، ولم يأمر باعتقال الفاعل أو من شارك معه. وقد حضرت قيادة حماس لاحقًا لتقديم الاعتذار، فأكد لهم عرفات أن الأمر لا يستحق الوقوف عنده.
ويمثل هذا التصرف موقفًا نادرًا بين الزعماء العرب، ويعكس حكمة ياسر عرفات وتغليبه مصلحة الوطن على اعتباره الشخصي.
أما وفاته: فلم يكن محمد الدايه شاهداً عليها، فقد أُبعد عن ياسر عرفات عام 2001م بعد أن منعه الإسرائيليون من الخروج من غزة، وهذا يفسر غيابه عن الصور برفقة أبوعمار في تلك الفترة، بعد ملازمته له كظله لسنوات. ورجّح الدايه أن اغتيال أبو عمار بالسم لم يكن عبر الطعام -كما يُشاع-، بل ربما بالحقن.
يُعد هذا اللقاء –من وجهة نظري– من أهم اللقاءات التي قدّمها اللواء محمد الدايه، رغم تكتمه على كثير من الأسرار التي لم يكشفها بعد. وهذا ما يدفع الباحثين والإعلاميين للسعي إلى كشف جميع الأسرار المرتبطة بحياة شخصية شكّلت تاريخَها جزءًا من تاريخ فلسطين المعاصر، بما له وما عليه. وكذلك كشف حقيقة الأقوال والروايات التي اختلط فيها الصحيح بالمزوّر، والحقيقي بالمدسوس.

Amjad Abuarafeh

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews