غزة.. قبضة الوصاية تحكم الخناق: خطط “اليوم التالي” في مرمى النيران الأمريكية-الصهيونية

بقلم : صورية بوعامر
في المشهد الكارثي الراهن، حيث لا يكاد يتوقف دوي القصف المتجدد عن تمزيق سماء قطاع غزة، تتكشف على الجانب الآخر من الطاولة الدبلوماسية مخططات هندسية تهدف إلى إعادة تشكيل جغرافيا وهوية القطاع بالكامل. إنّ ما يُعرف إعلاميا وسياسيا بـ “اليوم التالي” للحرب ليس مجرد ترتيبات إدارية أو أمنية عابرة، بل هو عملية فرض وصاية دولية صريحة، مدفوعة بأجندات أمريكية واضحة ومتناغمة، في جوهرها، مع الأهداف الأمنية للكيان الصهيوني. ترسم ملامح المستقبل هنا بأدوات عسكرية وسياسية بالغة القسوة، بعيدا عن أي اعتبار للإرادة الفلسطينية أو لمبادئ السيادة الوطنية، مما يضع مستقبل القطاع بين مطرقة المقاومة وسندان الخطط التي تسعى لإنهاء أي قوة ذاتية له.
تتجسد هذه الوصاية بالدرجة الأولى في الخطة الأمريكية، التي اعتمدها مجلس الأمن مؤخرا، والتي لا تخفي طابعها الهادف إلى تجريد غزة من قوتها الذاتية.
هذه ليست مجرد خطة لـ “إعادة الإعمار”، بل هي خطة لإعادة التشكيل السياسي والأمني، حيث يبرز المحور الأول فيها حول “الإدارة الانتقالية وتفكيك السيادة”. جوهر هذه الرؤية هو إنشاء قوة متعددة الجنسيات لـ “فرض الاستقرار”، معلنا دورها في مراقبة الحدود والإشراف على الأمن، لكن الهدف الجوهري الذي تسعى إليه واشنطن وتل أبيب هو نزع سلاح فصائل المقاومة الفلسطينية بالكامل. هذا البند يمثل التحدي الأمني الأكبر الذي تواجهه المقاومة، ويضعه الكيان الصهيوني كشرط لا رجعة فيه لإنهاء عدوانه، مما ينظر إليه فلسطينيا على أنه تجريد للأمة من حقها الأصيل في الدفاع عن نفسها تحت مسميات “الحياد الدولي”.
وفي السياق ذاته، تسعى الخطط الأمريكية إلى “استنساخ قيادة بديلة” عبر إنشاء هيئات فلسطينية “غير فصائلية” و”غير مسيسة” للإشراف على المرحلة الانتقالية وإدارة الإعمار. هذا المسعى ينظر إليه ببالغ القلق، حيث يهدف إلى عزل المقاومة وتفريغها من عمقها الشعبي والسياسي، والقفز فوق كل الترتيبات الوطنية والمشروعية الفلسطينية لصالح نخبة إدارية تمول وتديرها قوى خارجية.
هذا المفهوم يمثل عمليا تجميدا للقضية الوطنية برمتها، وبناء هيكل إداري وظيفي يخدم الأهداف الأمنية الصهيونية ويتجنب أي احتكاك سياسي، مما يصب مباشرة في مصلحة الكيان الصهيوني الذي يجد في الخطة الأمريكية ضالته؛ فهي تحقق أهدافه الأمنية الاستراتيجية بأقل تكلفة ممكنة، وتمنع “استنساخ حماس” دون الحاجة لإعادة احتلال القطاع بشكل مباشر وكامل.
إنّ المصلحة الصهيونية هنا ترتكز على ضمان “أمن الأطراف دون عبء الاحتلال المباشر”.
فبالرغم من الحديث عن “الانسحاب”، تصر الخطط على إبقاء السيطرة الصهيونية الكاملة على الأجواء والمياه والمعابر، مع إمكانية وجود قوات “محدودة” لمراقبة المنطقة العازلة التي يتم فرضها. هذا يعني عمليا أن غزة ستبقى كيانا تحت السيطرة الكلية الصهيونية، اقتصاديا وأمنيا، حتى لو تغيرت الوجوه الإدارية في الداخل، بينما تربط عملية إعادة الإعمار الهائلة بالالتزام بالشروط الأمنية والسياسية المفروضة. هذا يمنح واشنطن وتل أبيب ورقة ضغط دائمة، حيث يصبح التمويل والمساعدات الدولية أداة لترسيخ الواقع الجديد ومنع أي تحرك نحو استعادة القوة العسكرية للمقاومة.
في المقابل، يقف الفلسطينيون أمام مأزق وجودي صعب، وهو مقاومة الوصاية وتحدي الواقع.
جاء الرد الفلسطيني الموحد من فصائل المقاومة رفضا قاطعا لمفهوم الوصاية الدولية، معتبرين أن القرار الأمريكي هو تكريس لنتائج العدوان وانتهاك لحق الشعب في تقرير مستقبله. التحدي الأكبر للمقاومة اليوم هو كيفية الحفاظ على قوتها العسكرية في ظل الضغط الدولي غير المسبوق، ورفض الدخول في أي ترتيبات إدارية تقضي على وجودها. ويبقى الرهان الأخير على وحدة الصف الفلسطيني، وإعادة بناء جسم سياسي موحد يمثل غزة والضفة، ويستطيع التفاوض على أساس السيادة الكاملة وليس على أساس “الإدارة المحلية”، لأن أي محاولة خارجية لفصل غزة سياسيا عن المشروع الوطني الفلسطيني الأوسع محكوم عليها بالفشل، وستؤدي فقط إلى تفجير جديد للصراع. إنّ “اليوم التالي” في غزة ليس فجرا لانتهاء الحرب، بل هو فجر لمرحلة جديدة من الصراع بأدوات سياسية واقتصادية.
إنه معركة إرادات بين مشروع الوصاية الدولية والأمن الصهيوني من جهة، وبين الإصرار الفلسطيني على السيادة والتحرير من جهة أخرى. قطاع غزة المدمر يواجه خطر التحول إلى كيان وظيفي منزوع السلاح والإرادة، إلا إذا نجح الفلسطينيون في كسر إرادة الوصاية بوحدتهم وثباتهم في النطاق الإقليمي.



