مقالات

لماذا لم تعترف إيطاليا  بفلسطين؟؟

بقلم : سيف الدين رحماني

كاتب صحفي وباحث أكاديمي متخصص في الشؤون الإستراتيجية والعلاقات الدولية

ليس من قبيل المصادفة أن  يكون التحول الجذري في موقف الاتحاد الأوروبي تجاه إسرائيل قد حدث في إعلان صدر خلال مؤتمر عام 1980 في مدينة إيطالية، هي البندقية. ذلك عندما كانت منظمة التحرير الفلسطينية في أوج عطائها ونشاطها ضد إسرائيل. و أغلب دول الاتحاد الأوروبي ماضية في سردية اسرائيل  و الدفاع عن نفسها ومع ذلك، فإن “إعلان البندقية” آنذاك كان يطالب بإنشاء دولة فلسطينية وفرض عقوبات على المستوطنين، بسبب الانتهاكات و الاعتداءات اليومية التي يقومون بها ضد الفلسطينيين.

حينها كانت أحزاب اليسار المؤيدة لفلسطين هي  من تسيطر على  المشهد السياسي. و كان وزير الخارجية ماسيمو داليما، الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي اليساري، أحد أقوى معارضي إسرائيل عندما كان رئيساً للوزراء في الفترة من 1998 إلى 2000. اتخذت حكومته مواقف اعتُبرت متطرفة ومعادية لإسرائيل.

أما عن الحزب الشيوعي الاشتراكي الذي كان منحازا انحيازا مطلقا لإسرائيل  في كل مناسبة تحت زعامة رئيس الوزراء و المؤرخ، الصحفي جيوفاني سبادوليني(1981-1982 ) و التي أثارت الجدل حينها بين الساسة الإيطاليين مواقفه تلك المؤيدة لإسرائيل، دعمه كان نابعا من نزعة ايديولوجية و امتداد قومي راسخ ما بين أربعينات القرن الماضي إلى التسعينات بيد أن الجو العام كان مغايرا تماما في طلائع التسعينات، فجعلت الكثير من المراقبين يسلطون الضوء عليه، حتى كتب فالنتينو بالداتشي كتابا عنوانه ” سبادوليني و المسألة اليهودية ودولة إسرائيل” يناقش فيه كيف انتصر سبادوليني للقضية اليهودية و كيف كان يرى اليهود كجزء من ضمير أوروبا الحي  بعد الهولوكوست، فربط بهذه السردية ضرورة قيام دولة اسرائيل و اكد انها ليست مجرد دولة بل مشروع إنساني قائم على الحرية والديمقراطية، على حد قوله  وتعهد بضمان أمن إسرائيل و الدفاع عنها و قال انه لا يتم ذلك إلا بالتحالف مع الغرب. فكان اتساقه هذا مع المسألة الصهيونية متصلا لخمسين سنة، إذ كان يعتبر الصهيونية امتداداً للنهضة   الإيطالية الحديثة  Risorgimento تماما كحركة التحرر القومي التي قام به مازيني وغاريبالدي و كارلو كاتانيو رموز الحركة التحررية الايطالية في العصر الحديث.

سبادوليني العلماني الليبرالي تباينت أفكاره و مواقفه مع كثير من التيارات الفكرية و الشخصيات السياسية في عصره، خصوصا مع تيار الليبراليين التقليديين المحافظين أمثال (كروتشه، إيناودي، وشخصيات ما بعد الحرب) كان هؤلاء يتفقون مع غيرهم على احترام اليهود و حريات الأقليات، لكن موقفهم كان أقل حماسة تجاه إسرائيل. اذ كانوا يركزون على المبادئ الدستورية أكثر من الرمزية اليهودية.
و كانوا أقل أقل انخراطاً في السياسة الشرق أوسطية من غيرهم. 

أو كتيار الديمقراطية المسيحية العلماني الصلب، الذي ينظر لليهودية بوصفها ثقافة إنسانية وليست ديانة فقط. و ينتقد الكاثوليكية حين تتردد في الاعتراف باليهود كشركاء في الحضارة الغربية. ومن قادتها (دي غاسيبري، فافا، و أندريوتي الذي كان أكثر السياسيين الإيطاليين انتقاداً لإسرائيل بعد 1975. كان ينادي بضرورة  الانفتاح على العالم العربي و قد ترجمت مواقفه هذه بعلاقته الوطيدة مع المنظمة التحرير الفلسطينية.
اما دي غاسيبري فقد كان ينادي بدعم المسألة اليهودية لكن بدون الرؤية الفلسفية العميقة الموجودة عند سبادوليني.

من جانب آخر شهدت الجالية اليهودية قطيعة مع أحزاب اليسار (الشيوعيون والاشتراكيون)، فاتخذت سياسة “المثل بالمثل” نهجا له معهم، و قد وصل بها الحنق السياسي والأصولية الدينية أن رفضت مشاركة السياسيين المناهضين لإسرائيل في جنازات أفرادها البارزين، مثل حادثة الهجوم على كنيس روما الكبير عام 1982، الذي قام به مسلحون فلسطينيون عند مدخل الكنيس في 9 أكتوبر من العام ذاته وقتل فيها الطفل اليهودي، فألفوا بروباغندا مثالية إثر هذا الحدث.

وكان أبرز هؤلاء 
الحزب الشيوعي الإيطالي (PCI) الذي كان يتعاطف مع إسرائيل باعتبارها دولة اشتراكية كيبوتزية. قبل 1967 أما بعد 1967 فقد شهد انتقالا حادا نحو دعم العرب والفلسطينيين.
وقد كان في خطاباته يعتبر إسرائيل جزءاً من “المعسكر الإمبريالي”.

بينما الاشتراكيون (PSI) بقيادة كراكسي
فكانوا أكثر موازنة من الشيوعيين. دعم واضح  للفلسطينيين لكن ليس عداءً لإسرائيل.
و كان ابرزهم كراكسي الذي حاول بناء “خط وسط” بين تل أبيب ورام الله.

أما الرئيس ساندرو بيرتيني، رئيس الجمهورية الإيطالية (1978–1985) بسلطة رمزية. فقد كان أيضا من المغضوب عليهم آنذاك، و هو المؤيد لإسرائيل من حيث المبدأ، خاصة حقها في الوجود والأمن. لكنه كان أكثر انتقاداً للسياسات الإسرائيلية خاصة تجاه الفلسطينيين. و كان أول رئيس إيطالي يزور إسرائيل (1982)، لكن الزيارة تخللتها رسائل قوية ضد الحرب في لبنان، إذ اعتبر اجتياح لبنان كارثة إنسانية.

و وجّه في إحدى أشهر خطبه انتقاداً لاذعاً لإسرائيل، قائلاً:
“Nessuno può difendere la libertà calpestando la libertà degli altri.”
(لا يمكن لأحد أن يدافع عن الحرية وهو يدوس حرية الآخرين.)
و بكى علناً أثناء حديثه عن ضحايا صبرا وشاتيلا. ظهر حينها كإنسان عاطفي، إنساني، قريب من الشعب. يرى الصراع من منظور أخلاقي مباشر: “ألم – ظلم – مقاومة”. فكان بامتياز  يمثل الضمير الأخلاقي اليساري الأوروبي.

 و كان يدعو باستمرار إلى حل سياسي قائم على “دولتين وشعبين”. أرعبهم أنه اشتراكي أدان أيضاً إسرائيل واحتضن القضية الفلسطينية وكان أحد أوائل القادة الأوروبيين الذين طالبوا علناً بالاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية ودعم قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل. و كانت له علاقة إيجابية مع شخصيات عربية، ورأى أن الحل يجب أن يكون عادلاً للطرفين.
بيرتيني كان أقرب إلى خط “الاشتراكية الأوروبية” المتعاطفة مع الفلسطينيين. أما سبادوليني كان أكثر ميلاً إلى القراءة الغربية–الإسرائيلية للصراع.

فقط في أوائل التسعينيات، و مع تجزئة المشهد السياسي الإيطالي وبعد موجة من فضائح الفساد الضخمة، ظهرت قوى يمينية رئيسية تدعم إسرائيل بقوة. قادها رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني، زعيم حزب “فورزا إيطاليا” الذي تشكل في أوائل تلك الحقبة. أعاد اليمين الإيطالي الجديد إلى حد كبير إضفاء الشرعية على المواقف المؤيدة لإسرائيل. ومع ذلك، لا يزال اليسار بأكمله تقريباً، وأجزاء كبيرة من العالم الكاثوليكي، يحتفظون بآرائهم المناهضة لإسرائيل.

و لا يخفى على الكثير منا أن الفكر المتشدد و النزعة القومية و التعصب المفرط لإسرائيل لتيار اليمين الوسط و اليمين المتطرف أحيانا مستمد من فكر جوفاني سبادوليني إذ يرونه المثال والقدوة في التصوير النمطي للمسألة اليهودية والحركة الصهيونية. نتكلم هنا عن جورجا ملوني و ماتيو سالفيني زعيمي الإئتلاف الحاصل الآن في الحكومة الإيطالية.

و من وجهة نظر سياسية واجتماعية، ما يحدث في إيطاليا مؤخراً مثير للاهتمام للغاية، مقارنة بغيرها من دول الاتحاد الأوروبي عدا ألمانيا. وذلك فيما يتعلق بالسلوك السياسي المتحيز الصارخ والمختلط بتشوهات النزعة الأخلاقية والمواقف السياسية والقانونية والدبلوماسية.
إذ يظهر سلوك “دولة تابعة وقت الحرب”، كما يصفها أليساندرو أورسيني، الأستاذ في علم الاجتماع السياسي بجامعة روما. نعم دولة مسلوبة الإرادة السياسية، لا تملك قرارها في متعلقات سياستها الخارجية، أو بالأحرى ليس لها شخصية دولية مستقلة ولا قرار سيادي حاسم. رقبتها دائما مرهونة لواشنطن، خصوصاً تجاه إسرائيل، على الأقل في حقبة اليمين الحاكم حاليا بقيادة جورجا ميلوني، رئيسة حزب “إخوة إيطاليا”.

كما تعلمنا من مدرسة الشك عند ماركس ونيتشه وفرويد، أن جميع المجتمعات البشرية تحاول دائماً أن تبدو أفضل مما هي عليه. ونظراً لأن إيطاليا تخجل من هيمنة قوة أجنبية، فقد طورت خطاباً إبان أحداث الإبادة في غزة لتجميل الواقع القاسي الذي فرض عليها لسنين، ونعني به خضوعها المطواع لواشنطن. كان التقديم مزيناً بالخطاب القائل بأن الولايات المتحدة حررت إيطاليا من الفاشية غداة الحرب العالمية الثانية، لكن هذا الخطاب التصويري فقد قوته وأثره مع تعاقب الأجيال، منذ أن أضعفت وفاة الوطنيين الذاكرة التاريخية والروابط العاطفية بين الأجيال الحديثة وأحداث 1943–1945.

في الحقيقة، هذا الجيل من الشباب لا يشعر اليوم بأنه مدين بالامتنان للجيش الأمريكي، أيضاً لأن الولايات المتحدة دمرت صورتَها الخاصة في غضون ذلك، من خلال تنفيذ جميع أنواع المجازر بالمباشرة و الوكالة، ودعم الديكتاتوريات الأكثر دموية في العالم. عندما يشاهد الإيطاليون الذين يبلغون من العمر ثمانية عشر عاماً التلفزيون، فإنهم يربطون مباشرة الولايات المتحدة بغزة وليس بإنزال النورماندي. كل هذا يشكل تحدياً كبيراً لوسائل الإعلام الرئيسية، التي يجب أن تطور خطاباً جديداً لشرح أن ما يحدث اليوم هو هزة ارتدادية في أرضية القيم والأخلاق الأوروبية الغربية.

و من غريب المفارقات أن جورجا ميلوني، زعيمة الحزب اليميني المتطرف “إخوة إيطاليا” ورئيسة الحكومة الإيطالية حالياً، تنتمي إلى الفاشية الكلاسيكية كما يصورها المتابعون والرأي العام الإيطالي. وهي التي كانت تصدح في مقابلات سابقة بأن موسوليني كان من الزعماء الوطنيين الإيطاليين الذين قل نظيرهم، بل تمجده وتمدحه.
لكن عندما تتقاطع المصالح وتتشارك الأهداف، يسهل على ميلوني أن تتنازل عن المبادئ. فحزبها وحزب “فورزا إيطاليا” بزعامة سيلفيو برلسكوني الراحل، وغيره من الأحزاب اليمينية والمحافظة، المهيمنة على الساحة السياسية، كانت دائماً داعمة لإسرائيل وتتبنى سردية “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. كل هذه الأحزاب وغيرها من أحزاب  اليمين الوسط واليمين المتطرف، وعلى الرغم من جذورها الفاشية، تبنت في العقود الأخيرة مواقف مؤيدة لإسرائيل، خاصة في ظل العداء المشترك للإسلام السياسي والهجرة.

فإذا ما تساءلنا عما إذا كانت الإسلاموفوبيا تلعب دوراً في التحالف بين نتنياهو وميلوني، فإن الإجابة حتما هي نعم. كان ولا يزال “الإسلام السياسي” والحركات الإسلامية هي الإسمنت الجامع بين الحكومات اليمينية الغربية واللوبيات الصهيونية والكيان الصهيوني.

منذ سبعينيات القرن الماضي، نشأت علاقات دبلوماسية وتجارية وعسكرية قوية بين إيطاليا وإسرائيل. ولأن إيطاليا، تماماً كألمانيا، تعاني من عقدة الذنب الجماعي، سعت إلى التكفير عن هذه العقدة المرتبطة بالهولوكوست بالتحيز الصارخ للكيان الصهيوني، مما جعلها أكثر إقبالاً وتقارباً مع إسرائيل. فعمدت إلى التطبيع السياسي والأمني والأكاديمي والعسكري.

حجم التنسيق …

هناك تقارير ووثائق تثبت أن تنسيقاً وتعاوناً أكاديمياً وتقنياً وثيقاً بين الجامعات الإيطالية والإسرائيلية لا يزال جارياً حتى اللحظة الأخيرة من الإبادة الجماعية الحاصلة في غزة. بل إن الحكومة الإيطالية لم تتمكن حتى من إغلاق أو تعليق برنامج «أفق» (HORIZON) المخصص للدعم المتبادل بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل في مجال البحث والتكنولوجيا والتطوير، وأيضاً في المجال العسكري، خصوصاً في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، على الرغم من مطالبة الرأي العام بحل هذه الاتفاقيات.

ومؤخراً، كما أعلن مكتب التوجيهات الخاصة بالوكالة الوطنية للأمن السيبراني في جهاز الأمن الإيطالي، ونُشر في الجريدة الرسمية ودخل حيز التنفيذ، قررت جورجا ميلوني أن تمنح جائزة لنتنياهو مجرم الحرب، وجوائز أخرى لشركات إسرائيلية متخصصة في الأمن السيبراني، ستزود برمجيات وطائرات مسيرة بدون طيار للحكومة الإيطالية.

 كما أن الجيش الإيطالي أبرم صفقات أسلحة مع إسرائيل (قطع غيار، طائرات بدون طيار، أجهزة مراقبة ورصد معلوماتي و منظومات تجسسية ) في خضم حرب الكيان على غزة. ولا تزال الصادرات العسكرية إلى إسرائيل مستمرة على أساس العقود السابقة، كما اعترف وزير الدفاع غيدو كروسيتو. وكل الأجهزة الأمنية الإيطالية تشارك في تدريبات دورية مشتركة ومؤتمرات مع نظيرتها الإسرائيلية.

أما عن بروتوكول التعاون بين إيطاليا وإسرائيل، كما ورد في وثائق رسمية، فينص البروتوكول الموقع في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2009 على زيادة تعميق الروابط القائمة، الثنائية والمتعددة الأطراف على السواء، من خلال إنشاء فريق تعاون بين مجلس النواب والكنيست، يشترك في رئاسته برلمانيون يعينهم رؤساء كل جمعية، ويتألف من ستة برلمانيين آخرين لكل جانب.

وتجتمع المجموعة بشكل دوري، بالتناوب في إيطاليا وإسرائيل، لمناقشة القضايا الرئيسية للسياسة الدولية، وكذلك القضايا ذات الاهتمام المشترك المتعلقة بالسياسات القطاعية وأداء المؤسسات البرلمانية.

وينص البروتوكول أيضاً على:

  • عقد اجتماعات بين اللجان النظرية لتعميق القضايا الأكثر أهمية للجتمعين.
  • تحديد المبادرات المشتركة الرامية إلى تعزيز التعاون البرلماني الأوروبي المتوسطي وتشكيل مواقف متقاربة في إطار أنشطة الجمعية البرلمانية الأوروبية المتوسطية.
  • تفعيل أشكال التعاون الإداري، ولا سيما التبادل الدوري للمسؤولين من أجل تعزيز قدر أكبر من المعرفة المتبادلة بعمل الإدارات البرلمانية المعنية، مع إيلاء اهتمام خاص للأنشطة التشريعية وأنشطة التوثيق والتنظيم الإداري واستخدام التكنولوجيات الجديدة.

في الهيئة التشريعية التاسعة عشرة، يرأس الجزء الإيطالي من مجموعة التعاون البرلماني النائب باولو فورمينتيني عن حزب “الرابطة” الذي يتزعمه ماتيو سالفيني. ويشمل أيضاً النواب أندريا أورسيني عن حزب “فورزا إيطاليا”، وجوزيبي بروفنزانو (الحزب الديمقراطي)، وستيفانو جيوفاني مولو (حزب “إخوة إيطاليا”)، وألفونسو كولوتشي (M5S).

ويشترك في رئاسة الجانب الإسرائيلي النواب إيدان رول (“ييش عتيد”) ونسيم فاتوري (“الليكود”). ويشمل أيضاً النواب موشيه أربيل (“شاس”)، ومراف بن آري (“ييش عتيد”)، وإيريز مالول (“شاس”)، وتاتيانا مازارسكي (“ييش عتيد”)، وجدعون ساعر (حزب “الوحدة الوطنية”)، وماتي سارفاتي هاركاف (“ييش عتيد”).

أوروبا حائرة في إسرائيل بين ثلاث …

مباشرة بعد بدء قصف غزة (8 أكتوبر 2023)، انقسمت حكومات الاتحاد الأوروبي في سلوكها نحو إسرائيل إلى ثلاث مجموعات رئيسية: مهاجمة، ومترددة، وصديقة.

حاولت الحكومات المهاجمة لإسرائيل، مثل أيرلندا، فرض عقوبات على نتنياهو لتدميره غزة وارتكابه جرائم الإبادة الجماعية. سعت هذه الحكومات إلى العقاب من خلال تطبيق ما قررته محكمة الجنايات الدولية. حاولت الحكومات كبح جماح نتنياهو بالضغط الدبلوماسي والعقوبات التجارية. ومن أكبر ممثلي هذه المجموعة الأولى هي: أيرلندا، إسبانيا، سلوفينيا، بلجيكا، والنرويج. وكل هذه الدول اعترفت رسمياً بدولة فلسطين والتزمت باستعدادها لاعتقال نتنياهو وتطبيق ما جاء في مذكرة الاعتقال الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية.
لهذا قام نتنياهو بإغلاق السفارة الإسرائيلية في دبلن واتهم رئيس الوزراء الأيرلندي ووزير خارجيته بمعاداة السامية.

أما الحكومات المترددة، فتناوبت على إبداء علامات الرضا والغضب في نفس الوقت تجاه نتنياهو. فمثلاً، فرنسا هي أكبر ممثل لمجموعة المترددين. عارض ماكرون نتنياهو، لكنه ساعده أيضاً. من ناحية، دعا ماكرون المجتمع الدولي إلى عدم بيع أي أسلحة أخرى إلى إسرائيل؛ ومن ناحية أخرى، أعلن أنه لن يعتقله، خلافاً لما طلبته المحكمة الجنائية الدولية. ثم اعترف بدولة فلسطين عام 2025، وفي الوقت نفسه أرسل ماكرون طائراته للدفاع عن إسرائيل من الصواريخ الإيرانية في أبريل وأكتوبر 2024.

أما الحكومات الصديقة، فدافعت عن نتنياهو من أي إجراء عقابي. كإيطاليا ميلوني وألمانيا شولتز، بطلا المجموعة الثالثة، مجموعة الأصدقاء. استمرت ميلوني في إعطاء الأسلحة لنتنياهو لاستمرار الإبادة. و مولت جرائم حرب ضد الانسانية كما فعلت واشنطن، عندما كان عدد القتلى الفلسطينيين أكثر من 40،000 قال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني: “إسرائيل لم ترتكب جرائم حرب” عجيب وكأنه اعمى لا يرى او أنه خائف من شيء آخر يرى.

و منه تسعى الحكومات الصديقة لأن تفلت إسرائيل من العقاب: لا عقوبات ولا زجر ولا كبح جماح. فواضح جداً مع أي صف اصطفت جورجا ميلوني.

لماذا تنحني حكومات العالم أمام هذا المارد الصهيوني ؟

سؤال كهذا لابد من تخصيص فصل كامل للاجابة عنه لانه مرتبط ارتباطا عضويا باللوبي الصهيوني و جماعات الضغط في اوروبا و الحديث عن هذا الموضوع الف فيه الكاتبان الامريكيان جون ميرشايمر وستيفن والت كتابا كاملا بعنوان اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية اما عن اوروبا فقد استفاض ديفيد كورنين مع ثلة من الزملاء في كتاب بعنوان اللوبي الإسرائيلي في الاتحاد الأوروبي. يشرح من هم اللاعبون الرئيسيون في اللوبي الإسرائيلي داخل أوروبا: مثل جماعات تمكين العلاقات مع إسرائيل، الشبكات البرلمانية، مراكز الأبحاث. ولكن نحن في هذا السؤال في نحاول فقط أن نستجلي ما غمض منه بإحاطة عامة … 

هناك ثلاثة عوامل هيكلية على الأقل:

الأول هو الانتخابات ومسألة التمويل: في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر واضح، يضرب المارد الصهيوني بيد من حديد، يحسم بتدخله الفاعل في المناطق المتأرجحة وفي الانتخابات التمهيدية، فيكون التهديد بالهزيمة حتمياً تقريباً؛ أما في أوروبا، فلا تملك الجهات الضاغطة الأوروبية نفس الثغرات، ولكنها تبني رأس المال السياسي من خلال الإغراءات، الزيارات البرلمانية، والرحلات الدراسية، والتنسيقات الأمنية المشتركة، والعلاقات مع مراكز الفكر ووسائل الإعلام.
أما الثاني فهو عامل استراتيجي: ينظر إلى إسرائيل على أنها عقدة عسكرية تكنولوجية غربية في الشرق الأوسط؛ العبث معها يعني أثماناً باهظة في العلاقة مع واشنطن.

والعامل الثالث فهو على مستوى السردية: إذ تسمح لنا العناوين الهلامية من قبيل “الديمقراطية ضد الإرهاب” وشعار “نحن ضد المتوحشين” أو “الإسلام السياسي” بتبرير كل إجراء تقريباً على مستوى الدعاية، طالما أن الضرر الذي يلحق بالسمعة لا يتجاوز المصالح السياسية. لان اللوبي هنا يستخدم استراتيجية التأثير الإعلامي والسياسي لصالح إسرائيل، مثل مقاومة الضغط على إسرائيل من الدول الأوروبية أو منع فرض عقوبات أو تدابير ضدها.

وعندما تصل أخبار صادمة – مثل قتل العاملين في المجال الإنساني، حصار القوافل أو قصص المجازر المرعبة – تظهر تململات و تذبذبات تمشي على استحياء، من طرف الحكومات الخاضعة من قبيل ” نشجب، نندد، نرفض …..“
  ولكن نادرا ما تتغير السياسات في العمق. ثم تتدخل آلة الدعاية فوراً لتقديم تفسيرات ملتوية، أو لتحويل الانتباه إلى قضية أخرى، أو ببساطة لإنكار الوقائع. هكذا تُدار اللعبة.
 إنها الآلية التي تفسر لماذا لا يمكن لإيطاليا أن تنتقد، وفي الوقت نفسه، لا تفرض شروطا جوهرية على الأسلحة والتعاون.

ما الذي يعنيه الخط “المؤيد لإسرائيل” حقاً؟

إن تبني سياسة تتماشى مع القانون الدولي اليوم يعني أربعة خيارات أساسية: الاعتراف علناً بمراسيم محكمة العدل الدولية وتطبيقها كمعيار سلوك ملزم؛ وتعليق عمليات نقل الأسلحة والتعاون العسكري حتى يتم احترام الالتزامات الدولية؛ وتطبيق عقوبات نافذة ضد إسرائيل؛ وإخضاع أي تسهيل اقتصادي لوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل ويمكن التحقق منه.

لقد سلك الاتحاد الأوروبي طريقاً من الخطابات والبيانات الداعمة لوقف إطلاق النار، لكن تحويل هذه البيانات إلى ممارسة فعلية يتطلب استعداداً لتحمل التكلفة الناتجة عن مواجهة شبكات النفوذ و الضغط الموضحة أعلاه. طالما أن هذه التكاليف لا تزال تُعتبر أعلى من الكلفة الإنسانية وضرر السمعة، ستستمر الحكومات في سياسة الانحناء، على الرغم من ضغوط الشارع والاحتجاجات الشعبية المتصاعدة.

إذا قارنا إيطاليا بإسبانيا، نجد أن إسبانيا تحكمها حكومة معادية لنتنياهو. وإسبانيا أيضاً عضو في حلف الناتو وتقع داخل دائرة النفوذ الأمريكي. الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا وعدد سكانها أقل من إيطاليا، ومع ذلك، منعت السفن المتجهة إلى إسرائيل التي تحمل أسلحة أمريكية من الرسو في موانئها. حتى إن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز دعم جنوب أفريقيا في دعوى الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في الأمم المتحدة.

ومع أن إسبانيا دولة أقل قوة من إيطاليا في الاتحاد الأوروبي (يمثل ناتجها المحلي 8.6% من إجمالي الناتج الأوروبي، ويبلغ عدد سكانها حوالي 48 مليون نسمة)، فإنها الاستثناء الوحيد بين الحالات المختارة. اتخذت إسبانيا قرارات مناهضة لإسرائيل من خلال تحدي نتنياهو علناً بعدة إجراءات:
في 29 ديسمبر 2023، قدمت جنوب أفريقيا شكوى إلى الأمم المتحدة ضد إسرائيل بتهمة “الإبادة الجماعية”. اعتبرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة الادعاءات جدية وبدأت المحاكمة. عضدها رئيس الوزراء الإسباني سانشيز، وحفز القاضي الأمريكي جوان دونوهيو، رئيس المحكمة، على متابعة القضية. في 6 يونيو 2024، صرح وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس: “لقد اتخذنا هذه الإجراءات ضد إسرائيل في ظل استمرار الإبادة الجماعية في غزة”.

لم تتوقف المواقف الشجاعة عند هذا الحد. ففي مايو 2024، اعترف سانشيز بدولة فلسطين، وطالب المجتمع الدولي بوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. وفي 11 أكتوبر 2024، أكد في مؤتمر صحفي في روما: “لم تصدر الحكومة الإسبانية أي نوع من الأسلحة أو المواد العسكرية إلى إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، لا شيء”.
بعد بضعة أسابيع، ألحق سانشيز إهانة أخرى بنتنياهو برفض تصاريح الإرساء لسفينتين تحملان أسلحة موجهة إلى إسرائيل، غادرتا نيويورك في 31 أكتوبر و4 نوفمبر 2024. كان من المقرر أن ترسو السفينتان “ميرسك دنفر” و”ميرسك سيليتار” في ميناء ألجيسيراس، لكنهما اضطرتا لتغيير مسارهما إلى ميناء طنجة بالمغرب ثم إلى مصر. كانت هذه المرة الأولى في تاريخ العلاقات الإسبانية الإسرائيلية التي يرفض فيها رئيس إسباني رسو سفينة أسلحة إسرائيلية.

هذا هو سلوك الحكومة الإسبانية بقيادة سانشيز: شجاعة منقطعة النظير، في وقت تحضن فيه دول عربية الكيان ومشتقاته ضمن مجالاتها الحيوية.

أما جورجا ميلوني، فقد دعمت نتنياهو بشكل كامل و دعم غير مشروط خلال الأيام التي كان الجيش الإسرائيلي يُبيد فيها الفلسطينيين. كل المستندات والوثائق المتعلقة بالفترة من 8 أكتوبر 2023 إلى 8 يونيو 2025 تثبت ذلك ولا تترك مجالاً للشك.

كما يخلص أورسيني، فإن أزمة غزة كشفت النقاب عن “المعايير الأخلاقية المزدوجة” للديمقراطيات الغربية في تبرير جرائمها وجرائم حلفائها. فما كان “خطأ” عندما تفعله دول أخرى (مثل قصف صربيا) يصبح “ضرورة أخلاقية” أو “خياراً تراجيدياً” عندما تريده واشنطن، كما حدث في التيسعينات عندما شجعت الصحف اليمينية الإيطالية الحكومة على قصف صربيا لأن “واشنطن تريد ذلك”.
في النهاية، كانت ميلوني تدعم نتنياهو لأسباب سياسية محضة. كفاحها للسلطة وبقائها فيها تطلب منها تكثير الأصدقاء، وليس الأعداء. استلطاف جماعات الضغط الصهيونية المسيطرة على مفاصل الدولة كان أولوية. ميلوني ونتنياهو كانا حليفين حتى قبل 7 أكتوبر. ميلوني لم تكن ترغب في تحويل حليف إلى عدو، واعتبرت أن الوقوف ضد إسرائيل من أجل الفلسطينيين هو “ثمن سياسي باهظ” لا تستطيع دفعه. و منه من سابع المستحيلات ان تعترف حكومتها بفلسطين كدولة.

الخطأ الجوهري، كما يكشف هذا التحليل، هو في المنطق الأخلاقي الغربي نفسه: فلا ينبغي لأي حزب في أي ديمقراطية غربية أن يقيم تحالفات وثيقة مع حزب مثل “الليكود” ونتنياهو الذي انتهك حقوق الإنسان لعقود. أولئك الذين يتحالفون معه يشاركونه، بشكل أو بآخر، في مسؤوليته الأخلاقية، و عاجلا أم آجلا، مدعوون للدفاع علنا عن جرائمهم.
 من المعلوم أن الطبقات الحاكمة، في أوروبا والتي تحوم حولها جماعة ضغط صهيونية قوية، كإيطاليا ميلوني او هنغاريا اوربان او المانيا مثلا مدعوة دائما إلى دعم جرائم اسرائيل أو تبريرها.
‏جورجا ميلوني قدمت دعما عسكريا ولوجستيا وفنيا وتقنيا و سيبرانيا ‏للكيان الصهيوني وقدمت أيضا الحماية والحصانة الدبلوماسية للمجرم نتنياهو.
و منه الاعتراف كدولة ليس من أولويات جورجا ميلوني و لن تعمل باتفاقية البندقية و لن تتمثل موقف ساندرو بيرتيني، بل هي متمسكة في مواقفها الأكثر تشددا و التي لم يسبقها احد اليها و لا حتى جوفاني سبادوليني عراب اليهود و الكيان الصهيوني في ايطاليا.

إذا جئت تستفسر، فستجد أن حكومة جورجا ميلوني في عمومها متكونة من أفراد ينشطون ضمن اللوبي الصهيوني في روما ‏متعاقدين باتفاقيات مع منظمات كثيرة ‏تنضوي تحته. سنأتي على ذكر ذلك في مقال استقصائي تحليلي خاص و دقيق حول تحكم اللوبي الصهيوني في دوائر القرار الايطالي و كيف يهندس السياسة الداخلية والأمنية لإيطاليا.

Amjad Abuarafeh

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews