دبلوماسية رفع العقوبات عن سوريا في نيويورك تقترب من نقطة اللاعودة

يقلم: وليد شهاب
وسط الأضواء الساطعة لمدينة نيويورك، وعلى هامش أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، شكّلت الزيارة التاريخية للرئيس السوري أحمد الشرع محطة فارقة في مسار العلاقات الدولية، حيث حمل معه رسالة واضحة مفادها أن سوريا تستعد لطي صفحة الماضي بكل ما حملته من جراح وعقوبات، منادياً برفع القيود الاقتصادية التي تكبل شعبه وتحول دون انطلاق عجلة التعافي وإعادة الإعمار
لم تكن كلمة الشرع في قاعة الأمم المتحدة مجرد خطاب عابر، بل كانت إعلاناً مدوياً عن مرحلة جديدة في الدبلوماسية السورية، مؤكداً أن بلاده استعادت علاقاتها الدولية وأنشأت شراكات إقليمية وعالمية عبر نشاط دبلوماسي مكثف، توج برفع معظم العقوبات تدريجياً عن سوريا، لكنه طالب برفعها بشكل كامل حتى لا تبقى أداة لتكبيل الشعب السوري ومصادرة حريته من جديد
وخلال اللقاءات الثنائية المكثفة التي عقدها وفده، ظلت قضية رفع العقوبات هي البوصلة الموجهة للحديث، في إشارة واضحة إلى أولوية هذا الملف في السياسة الخارجية السورية الراهنة، حيث مثلت هذه الزيارة اختباراً حقيقياً لمدى قدرة الدبلوماسية السورية على تحويل الزخم الإعلامي والسياسي إلى مكاسب ملموسة على الأرض
لقاءات على هامش الأمم المتحدة
شهدت الزيارة سلسلة من اللقاءات الهامة، كان أبرزها اجتماع الرئيس الشرع بوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، حيث جرى بحث الجهود المتواصلة لتحقيق الأمن والازدهار لجميع السوريين، وقال روبيو في تعليقه على اللقاء عبر منصة التواصل الاجتماعي “إكس” إنه ناقش مع الرئيس السوري الأهداف المشتركة في سوريا مستقرة وذات سيادة
كما تطرق النقاش إلى تنفيذ الإعلان الذي وصفه روبيو بالتاريخي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن تخفيف العقوبات، وإلى أهمية العلاقات الإسرائيلية السورية، في إشارة إلى الأبعاد الإقليمية المتشابكة للملف السوري
ولم يقتصر حديث الشرع عن العقوبات على اللقاءات الرسمية فقط، بل حمّل رسالته أيضاً في منصة قمة “كونكورديا” في نيويورك، حيث وصف بقاء العقوبات بأنه محاولة جديدة لقتل الشعب السوري، مؤكداً أن سوريا تحتاج إلى فرصة جديدة للحياة، معترفاً بالخطوة الأمريكية الأخيرة في رفع العقوبات لكنه طالب الكونجرس بالمزيد من العمل لرفعها بشكل نهائي
مسار طويل من العقوبات
لم تأتِ مطالب رفع العقوبات من فراغ، فسوريا عانت لعقود من إجراءات تقييدية متتالية بدأت في كانون الثاني عام 1979 عندما صنفت الولايات المتحدة سوريا كدولة راعية للإرهاب على خلفية دعمها لبعض الفصائل الفلسطينية والتدخل السوري في لبنان، وتركزت العقوبات آنذاك على القطاع العسكري من صادرات الأسلحة والمبيعات الدفاعية
ومع اندلاع الثورة السورية، دخلت العقوبات مرحلة جديدة أكثر قسوة، حيث أصدر الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في نيسان عام 2011 القرار التنفيذي رقم 13572 على خلفية قمع النظام للثورة السورية، وتصاعدت حدة العقوبات لتصل ذروتها مع إقرار الكونجرس الأمريكي لقانون “قيصر” في حزيران عام 2020، الذي فرض عقوبات مالية على مسؤولين سوريين ورجال أعمال وكل أجنبي يتعامل مع دمشق، وتضمن تجميد مساعدات إعادة الإعمار
تطورات جديدة وإشارات إيجابية
في منعطف مهم، أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية عن تعديل لوائح العقوبات الخاصة بسوريا، بما ينهي حالة الطوارئ القديمة، ووفقاً للقرار النهائي، فقد جرى تغيير عنوان اللوائح المتعلقة بسوريا إلى “لوائح عقوبات تعزيز المساءلة عن الأسد وتحقيق الاستقرار الإقليمي”، وتعديلها لتنفيذ أمرين تنفيذيين صدرا في كانون الثاني وحزيران الماضيين
وذكر القرار أن إلغاء العقوبات العامة المفروضة على سوريا جاء بعد تحولات سياسية إيجابية في البلاد بقيادة الرئيس السوري أحمد الشرع، مع الإبقاء على العقوبات بحق مرتكبي جرائم الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان ومهربي الكبتاجون، كما أشار إلى أن حالة الطوارئ المرتبطة بسياسات النظام السابق والتي أعلنت عام 2004 قد تم إنهاؤها وإزالة لوائح العقوبات القديمة من قانون اللوائح الفدرالي
قراءات وتحليلات
يرى المستشار السابق في الخارجية الأمريكية حازم الغبرا أن القرار الذي خرج من الخزانة كان محضراً منذ أسابيع، واختار الرئيس الأمريكي إصداره تزامناً مع وجود الرئيس الشرع في الولايات المتحدة، معترفاً بأن الدبلوماسية السورية ممثلة بالرئيس الشرع ووزارة الخارجية لعبت دوراً مهماً جداً في هذا الصدد
وأشار الغبرا إلى أن الأمور لا تجري عادة بسرعة في الولايات المتحدة، معتبراً أن السرعة التي نراها هي قياسية في التعامل مع الملف السوري والعمل على رفع العقوبات، مؤكداً أن العودة إلى عقوبات قانون “قيصر” أصبحت أمراً من الماضي بعد أن جرى طيه من قبل الكونجرس الأمريكي وأصبح منوطاً بوزارة الخارجية
من جانبه، يرى المحلل السياسي حسن النيفي أن مسألة رفع العقوبات عن سوريا أصبحت الهاجس الأكثر أهمية لدى القيادة السورية، إدراكاً منها أن الاقتصاد هو الحامل الأساسي لمفهوم التعافي وإعادة الإعمار، معتبراً أن من المبكر الحديث عن الانعكاسات العملية لزيارة الشرع، لكن يمكن التأكيد على أن مسار العلاقات بين الطرفين يمضي في الاتجاه الصحيح
المطالب الأمريكية
يشير النيفي إلى أن ما تريده واشنطن من سوريا لقاء رفع العقوبات أمور كثيرة، من أهمها ألا تعود إيران وميليشياتها إلى سوريا، وأن تكون سوريا شريكة للتحالف الدولي في محاربة الإرهاب، كما عليها أن تبدي تعاوناً فيما يخص القضاء على المخزون الكيميائي السوري والإسهام في محاربة تصدير المخدرات إلى دول المنطقة
ويمكن إضافة مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لترامب، وهي أن تبدي الحكومة السورية تجاوباً تجاه إبرام تفاهمات مع إسرائيل، سواء أكانت هذه التفاهمات أمنية أو ذات بعد مستقبلي له صلة بالتطبيع
ويتفق المستشار السابق في الخارجية الأمريكية حازم الغبرا مع هذه الرؤية، مضيفاً ضرورة العمل على إنشاء بيئة ملائمة لمرحلة ما بعد العقوبات، دون الانتظار لرفعها ، من خلال تحديث القوانين التي بعضها جرى إقراره أثناء الوجود الفرنسي في سوريا وربما قبله
ويرى الغبرا أن الموضوع مرتبط بطلبات واضحة جداً وبسيطة عملياً وليست معقدة، يتشارك بها الطرفان السوري والأمريكي، منها حماية حقوق الأقليات وأمنهم، ومحاربة الإرهاب، مؤكداً أن هذه الملفات يجري العمل عليها بنجاحات متفاوتة، لكن لن تكون بين ليلة وضحاها
بعد تاريخي
تميزت زيارة الرئيس الشرع للولايات المتحدة بلقاءات متعددة مع رؤساء الدول والوفود اللقاء مع الرئيس ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إضافة إلى قادة عدد من الدول الأوروبية، في مشهد يعيد إلى الأذهان مشاركة الرئيس السوري نور الدين الأتاسي عام 1967، مما يجعل الشرع أول رئيس سوري على الإطلاق يشارك في أسبوع الجمعية العامة رفيع المستوى.
وتكمن أهمية هذه المشاركة في أن الجمعية العامة تمثل المنصة الدولية الأبرز لمناقشة القضايا العالمية وتقديم التوصيات، واعتماد ميزانية الأمم المتحدة، وانتخاب أعضاء غير دائمين في مجلس الأمن، وتعيين الأمين العام، إلى جانب اختصاصاتها في تعزيز التعاون في مجالات السلم والأمن، وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
تمثل زيارة الرئيس الشرع إلى نيويورك نقلة نوعية في التعاطي الدولي مع الملف السوري، حيث نجحت الدبلوماسية السورية في تحويل الملف من قضية محلية إلى قضية دولية تبحث عن حلول، ورغم أن الطريق لا يزال طويلاً أمام رفع العقوبات ، إلا أن الإشارات الإيجابية والخطوات العملية التي شهدتها الأسابيع الأخيرة تنبئ بمرحلة جديدة قد تكون نقطة تحول في تاريخ سوريا الحديث ويبقى التحدي الأكبر أمام الحكومة السورية هو ترجمة هذه المكاسب الدبلوماسية إلى تحسينات ملموسة في حياة المواطن السوري، والاستفادة من الفرصة التاريخية لإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب والعقوبات، في وقت تواصل فيه القوى الدولية والإقليمية.
مراقبة كل خطوة على طريق التعافي السوري، في اختبار حقيقي لإرادة السلام والاستقرار في منطقة ظلت لسنوات ساحة للصراعات والنزاعات