ابن الوردي لم يُضلّل المؤرخين.. بل وثّق زمنه بلغته: قراءة نقدية في مقال “القصة العربية التي أضلّت العالم”
بقلم: أبوبكر خلاف
أثار مقال الكاتب الإسرائيلي يوغف إسرائيلي المنشور في موقع ynet تحت عنوان «القصة العربية التي أضلّت أجيالًا من المؤرخين حول انتشار الموت الأسود» نقاشًا واسعًا حول التراث العربي ودوره في توثيق واحدة من أكبر الكوارث الوبائية في التاريخ. المقال زعم أن سردية المؤرخ العربي ابن الوردي حول الطاعون الذي ضرب العالم في القرن الرابع عشر، كانت السبب في “خرافة” علمية استند إليها المؤرخون على مدى قرون.
لكن قراءة متأنية للمصادر، ومراجعة علمية لأدبيات ذلك العصر، تكشف أن هذه الفرضية قاصرة وغير دقيقة، بل تنطوي على نزعة استعلائية تنكر مساهمة الأدب العربي في الوعي التاريخي الإنساني.
🔹 أولًا: ابن الوردي لم يكتب خرافة.. بل شهادة أدبية في زمن الكارثة
نص ابن الوردي الذي كُتب في حلب عام 1348، لم يكن بحثًا علميًا أو تقريرًا طبيًا، بل مقامة أدبية بلاغية تحاكي أسلوب السرد الرمزي الشائع في ذلك العصر، وتجمع بين التأمل الديني والتوثيق التاريخي.
هو لم “يضلّل المؤرخين”، لأن هدفه لم يكن تحليلًا وبائيًا، بل تعبيرًا حضاريًا عن مأساة إنسانية يعيشها العالم الإسلامي آنذاك. الخطأ الحقيقي جاء لاحقًا حين قرأ بعض المؤرخين الغربيين هذا النص بمعايير علم الأوبئة الحديث، فأسقطوا عليه ما لم يقصده صاحبه.
🔹 ثانيًا: دقّة التوصيف الجغرافي في نص ابن الوردي
المقال الإسرائيلي يلمّح إلى أن رواية ابن الوردي كانت السبب في الاعتقاد الخاطئ بأن الطاعون انتقل من آسيا إلى أوروبا.
لكن النص العربي يتوافق جزئيًا مع ما تؤكده الأبحاث الجينية الحديثة التي تثبت أن منشأ الوباء كان في آسيا الوسطى، وانتقل عبر طرق التجارة إلى الشرق الأوسط ثم أوروبا.
ابن الوردي لم يحدّد موضعًا علميًا دقيقًا، لكنه نقل التسلسل الزمني بوضوحٍ مدهش قياسًا بالمعرفة الجغرافية في القرن الرابع عشر.
🔹 ثالثًا: المقامة ليست خرافة بل وثيقة ثقافية
تغافل المقال عن أن “المقامة” في التراث العربي فنٌّ مركّب يجمع العلم واللغة والفكر، لا يقلّ قيمة عن الملاحم الأوروبية أو كتاب الديكاميرون لبوكاتشيو الذي وصف الطاعون في فلورنسا بأسلوب رمزي أيضًا.
الفرق الوحيد هو أن الدراسات الغربية تحتفي بموروثها الأدبي، بينما تُتهم النصوص العربية بأنها مصدر “الأسطورة”.
🔹 رابعًا: قيمة النص في الوعي الإنساني
إن مقامات ابن الوردي لا تُقدَّر بما تحمله من معلومات طبية، بل بما تكشفه من وعي جماعي وثقافة مواجهة في زمن الموت الجماعي. لقد سجّل المؤرخ السوري كيف واجه الناس الخوف بالكتابة، والإيمان، واللغة.
وهذا ما يجعل نصه وثيقةً إنسانية أكثر من كونه مجرد سجلٍّ للمرض.
🔹 خلاصة القول
اتهام التراث العربي بأنه “ضلّل المؤرخين” يفتقر إلى النزاهة العلمية. فالنصوص لا تُقاس بمعايير زمنٍ آخر، ولا يجوز محاكمة أدب القرن الرابع عشر بأدوات القرن الحادي والعشرين.
لقد قدّم ابن الوردي للعالم لوحةً أدبيةً تصف كيف واجهت حضارة كاملة الوباء بالمعرفة والبلاغة، لا بالجهل والخرافة.
إن إعادة قراءة التراث العربي بعيون منصفة لا تبرّئ الماضي فقط، بل تُعيد الاعتبار إلى الإنسان العربي ككاتبٍ وشاهدٍ للتاريخ، لا كصانعٍ للأسطورة.
📍 المصدر: تحليل وردّ على مقال ynet – يوغف إسرائيلي، 11 نوفمبر 2025.
🖋️ إعداد وتحليل: أبوبكر خلاف



