تقارير و تحقيقات

الضربة “الإسرائيلية” على الدوحة ستُجبر دول الخليج على إعادة النظر في أمنها الاستراتيجي

ترجمة وتحرير: عصام حريرة– مراسلين

تُمثل الضربة العسكرية “الإسرائيلية” على قطر في التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري تصعيدًا كبيرًا في التوترات الإقليمية؛ حيث فاجأت الدوحة بمعضلة أمنية جديدة مُلحة. فبالنسبة لقطر، يُثير الهجوم مخاوف من الانضمام إلى قائمة مُتزايدة من الدول العربية التي تعرّضت لعدوان عسكري “إسرائيلي”. ورغم أن الضربة استهدفت قطر تحديدًا، فإن باقي الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي فسّرتها على أنها تهديد لها جميعًا. وردًا على ذلك، تُحفّز هذه الحادثة مزيدًا من الوحدة والتنسيق بين دول الخليج الست، التي بلغ تصوّرها للتهديد “الإسرائيلي” مستويات جديدة هذا الشهر، تجلّت في زيارة رئيس دولة الإمارات، محمد بن زايد، إلى الدوحة بعد يوم واحد من الهجوم، فيما أدان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، “العدوان الإسرائيلي الوحشي” على قطر، وتعهد بأن الرياض ستقف إلى جانب الدوحة “بلا حدود”.

ويُشير هذا التضامن بوضوح إلى مدى تغيُّر ديناميكيات دول مجلس التعاون الخليجي منذ الحصار الذي قادته الإمارات والسعودية على قطر، والذي انتهى قبل أقل من خمس سنوات. وخارج إطار مجلس التعاون، اجتمع قادة وممثلون من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي في الدوحة في 15 سبتمبر/ أيلول لحضور قمة طارئة نظمتها جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وأصدر المجتمعون معًا إدانةً موحدةً للهجوم “الإسرائيلي” على قطر، التي حذّر أميرها، الشيخ تميم بن حمد، في خطابه من طموحات رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، التوسعية، واصفًا فكرة تحويل العالم العربي إلى “منطقة نفوذ إسرائيلية” بأنها “وهم خطير”.

الضمانات الأمنية الأمريكية تحت المجهر:

على مدى عقود اعتمدت حكومات الخليج على الولايات المتحدة كضامن أمني رئيسي لها، لا سيما ضد إيران والعراق، لكن سلسلة من قرارات السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقد الماضي أدت، بدرجات متفاوتة، إلى تآكل ثقة دول الخليج تدريجيًا في التزام أمريكا بأمن تلك الدول، وتشمل هذه القائمة: رد واشنطن على الربيع العربي 2010-2011، والاتفاق النووي الإيراني عام 2015، ورد فعلها المحدود على هجمات عام 2019 على شركة أرامكو السعودية وهجمات الحوثيين عام 2022 على أبو ظبي. ومع ذلك، فإن الضربة العسكرية “الإسرائيلية” الأخيرة على قطر قد أبرزت هذه المخاوف، ما زاد بشكل حاد من الشكوك بين دول الخليج حول موثوقية المظلة الأمنية الأمريكية. وكما ذكرت كل من “شبكة CNN” و”موقع أكسيوس”، فقد زعم مسؤولون أمريكيون و”إسرائيليون” أن “نتنياهو” أخطر إدارة “ترامب” قبل إطلاق هذه العملية؛ وإذا كان هذا صحيحًا فإنه يتناقض مع مزاعم البيت الأبيض بأن الإخطار لم يصل إلا بعد أن أطلق الجيش “الإسرائيلي” الصواريخ على الدوحة. لكن “ترامب” رد على قصف “إسرائيل” لقطر بالإشارة إلى الدولة الخليجية على أنها “حليف كبير”، وحذر حكومة “نتنياهو” من توخي “الحذر الشديد”.

وبغض النظر عن التوقيت ورواية الأحداث الدقيقة، فإن الدرس الرئيسي للدوحة هو أن المظلة الأمنية الأمريكية فشلت في منع وقوع هذا الهجوم غير المسبوق. ونظرًا لأن قطر استضافت المقر الأكبر للقيادة المركزية الأمريكية في قاعدة العديد الجوية لأكثر من عقدين، وتم تصنيفها حليفًا رئيسيًا من خارج حلف “الناتو” عام 2022، فإن الدوحة تتساءل الآن عن المعنى الحقيقي لهذه الجوانب من شراكتها الدفاعية مع واشنطن عمليًا، إذا كانت واشنطن سمحت (أو على الأقل فشلت في منع) ضربة “إسرائيلية” على الأراضي القطرية.

من جهة أخرى، أثار هذا الحادث أيضًا مخاوف مماثلة لدى أعضاء مجلس التعاون الخليجي الآخرين، الذين يتساءلون الآن عن الحماية، إن وجدت، التي يتمتعون بها والتي لا تتمتع بها قطر. فإذا كانت “إسرائيل” مستعدة لتنفيذ مثل هذه العملية مع إفلات واضح من العقاب، فما الذي سيمنعها من استهداف الأفراد الذين تعتبرهم حكومتها “إرهابيين” في أماكن أخرى من الخليج، مثل ممثل الحوثيين المقيم في مسقط؟

على خلفية الموقف الإقليمي المتزايد لحزم “إسرائيل”، بما في ذلك هجومها على الدوحة، وهجوم يونيو/ حزيران على إيران الذي أشعل حرب الأيام الاثني عشر، والعمليات العسكرية المستمرة ضد الحوثيين في اليمن، والغارات الجوية المتكررة في أنحاء سوريا منذ سقوط نظام “الأسد” العام الماضي، تجد دول مجلس التعاون نفسها أكثر توافقًا في تصوراتها للتهديدات. ومع سعي كل من الأنظمة الملكية الست إلى تحقيق أجندات طموحة للتنمية الاقتصادية والتنويع، أصبح الاستقرار الإقليمي ضرورة استراتيجية مشتركة؛ حيث يعتمد جذب المستثمرين وقادة الأعمال والسياح على الحفاظ على بيئة آمنة، ليس فقط داخل حدودها، بل في جميع أنحاء المنطقة.

من وجهة نظر الخليج، تُلقي أفعال “إسرائيل” بظلالها الطويلة على جدوى هذه الرؤى للتحول الاقتصادي؛ ففي هذا السياق لم يكن من المستغرب أن يسارع قادة الخليج إلى إدانة هجوم “إسرائيل” على قطر والتعبير عن تضامنهم القاطع مع الدوحة. وبالنسبة لجميع الأنظمة الملكية الست، فإن الضرورة واضحة؛ الإشارة إلى أنه يجب عدم تطبيع مثل هذه الأعمال العدوانية أو السماح لها بأن تصبح سابقة. وإن كانت الغارات الجوية “الإسرائيلية” في لبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية واليمن أصبحت أمرًا روتينيًا، فإن دول الخليج تتحد في تصميمها على منع إضافة أي عضو من أعضاء مجلس التعاون إلى تلك القائمة؛ فهناك إجماع خليجي على ضرورة تحمل “إسرائيل” عواقب أفعالها لردع أي هجمات مستقبلية على دول المجلس.

خيارات الخليج:

نظرًا لافتقار دول مجلس التعاون للقدرة العسكرية اللازمة للرد المباشر على “إسرائيل”، فإنها مضطرة إلى استكشاف خيارات بديلة غير عسكرية؛ ومن أبرز هذه الخيارات الاستخدام الاستراتيجي لعلاقتها الوثيقة بالرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وشخصيات بارزة في إدارته. ومن المرجح أن يضغط قادة الخليج على واشنطن لممارسة نفوذها الكبير على “إسرائيل” لمنع أي هجمات مستقبلية على أي دولة عضو في مجلس التعاون. وإدراكًا لاعتماد إدارة “ترامب” على دول الخليج لتحقيق الأهداف الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية الأمريكية، تمتلك هذه الدول أدوات دبلوماسية واقتصادية يمكن توظيفها بمهارة.

ونظرًا لمكانة الإمارات كأقرب دولة خليجية تربطها علاقات بـ”إسرائيل”، فإن الدوحة، وربما عواصم أخرى في المجلس، تشجع أبوظبي سرًا على إعادة تقييم علاقاتها مع تل أبيب. ورغم أن الإلغاء الكامل لـ”اتفاقيات أبراهام” ردًا على الضربة لا يزال مستبعدًا في هذه المرحلة، فقد يفكر المسؤولون الإماراتيون في إعادة تقييم العلاقات الثنائية، للتأكيد على أن أي عدوان على أي دولة عضو في مجلس التعاون له عواقب وخيمة. حتى لو لم تُلغِ أبو ظبي والمنامة “اتفاقيات أبراهام”، فقد تطردان سفراءهما أو تُخفّضان مستوى العلاقات الدبلوماسية (كما فعلت الإمارات مع إيران في يناير/ كانون الثاني 2016)، أو تُقلّصان تفاعلهما العلني مع “إسرائيل”. وبالنظر إلى المستقبل، إذا استمرت إسرائيل في التصرف بإفلات من العقاب، وفشلت واشنطن في كبح جماح سلوكها، فقد تحتفظ أبو ظبي بخيار الانسحاب من “اتفاقيات أبراهام” كليًا كشكل من أشكال الضغط. رغم ذلك، وبصرف النظر عن الخطاب القوي الذي يُدين الهجوم على الدوحة، فإن الإجراء الدبلوماسي الوحيد الذي اتخذته الإمارات حتى الآن ردًا على قصف “إسرائيل” لشقيقتها هو استدعاء نائب السفير “الإسرائيلي” إلى أبو ظبي.

في نهاية المطاف، تواجه دول مجلس التعاون نقطة تحول في صراعها مع الحقائق الإقليمية الجديدة؛ فقد كشف استعداد “إسرائيل” لضرب دولة خليجية وموافقة واشنطن الضمنية عن ثغرة خطيرة، في اعتماد الخليج طويل الأمد على الولايات المتحدة كضامن رئيسي لأمنه. في حال وقوع هجمات “إسرائيلية” أخرى، سيواجه قادة الخليج تحديًا كبيرًا يتمثل في إدارة تهديد أمني متزايد في غياب المظلة الوقائية التي لطالما اعتمدوا عليها. وفي ظل غياب قوة عالمية أو إقليمية بديلة قادرة وراغبة في أن تحل محل واشنطن في هذا الدور، قد تجد دول الخليج نفسها مدفوعةً بقوة إلى تعميق التنسيق الدفاعي بين بعضها البعض، وإحياء التطلعات إلى إطار أمني أكثر استقلالية، على غرار حلف “الناتو”، وهو ما سيتطلب تطوير أنظمة دفاع صاروخي قوية وقدرات ردع موثوقة وقتًا واستثمارًا مستدامًا، لكن يبدو هذا المسار ضروريًا.

بالتوازي مع ذلك، من المرجح أن تُوسّع دول الخليج شراكاتها الاستراتيجية مع باكستان وتركيا؛ فلكلٍّ من هاتين الدولتين مصالحها الخاصة في الحفاظ على أمن الخليج وسيادته في ظلّ موقف “إسرائيلي” متزايد الحزم وانسحاب أمريكي مُتصوّر. فبعد ثمانية أيام فقط من الهجوم “الإسرائيلي” على الدوحة، وقّعت السعودية وباكستان معاهدة دفاعية، تضع المملكة تحت المظلة الأمنية لإسلام آباد. ويكتسب هذا أهمية خاصة بالنظر إلى مخاوف باكستان المتزايدة بشأن علاقة “إسرائيل” مع الهند في سياق النزاع المسلح بين إسلام آباد ونيودلهي مؤخرًا، إضافةً إلى تصوّر تركيا للتهديد “الإسرائيلي” المتزايد في سوريا. أما إيران فقد تسعى لاغتنام هذه الفرصة بشكل انتهازي، للاستفادة من انعدام ثقة جيرانها العرب المتزايد بواشنطن، وتحاول التقرب من الدوحة وعواصم دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى. ورغم من أنه من المستبعد للغاية أن تؤدي تداعيات الضربة “الإسرائيلية” على قطر إلى أي تحول كبير على مستوى مجلس التعاون نحو إيران كشريك أمني، فإن طهران ستكون في وضع يسمح لها بتحقيق مكاسب رمزية في الغالب، مع تعزيز خطابها المناهض لـ”إسرائيل” وروايتها بالوقوف إلى جانب الدول ذات الأغلبية المسلمة الأخرى في معارضة “إسرائيل”.

باختصار، ففي حين أن المسار الدقيق لردود فعل مجلس التعاون ما زال غير مؤكد، فقد كانت ضربة “إسرائيل” بمثابة صدمة أجبرت جميع الأعضاء الستة على إعادة النظر في الافتراضات القديمة، حول موثوقية الضامن الأمني ​​الأمريكي لهم. وعقب ذلك، أظهرت دول الخليج وحدة قوية في وقت لم يعد فيه إعادة التفكير في أمن الخليج خيارًا. وبالتالي، فإن المنطقة تقف الآن عند منعطف حرج، من شأنه أن يشكل معالم أمن الخليج لسنوات قادمة، سواءً من خلال زيادة التنسيق داخل مجلس التعاون، أو تنويع الشراكات الخارجية، أو تجديد الجهود نحو الاستقلال الاستراتيجي.

المصدر: المجلس الأطلسي

The Atlantic Council

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews