
شبكة مراسلين
بقلم: إيهاب الكيالي – كاتب ومحلل سياسي
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، تصاعد الحديث عن مفهوم “الفوضى الخلّاقة” بوصفه أحد المفاتيح الأساسية لفهم التحوّلات العميقة التي طالت الشرق الأوسط والمنطقة العربية. هذا المفهوم الذي ظهر في أدبيات الإدارة الأميركية، خاصة بعد غزو العراق عام 2003، لم يكن مجرّد وصف لحالة آنية، بل كان استراتيجية مدروسة تهدف إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية والاجتماعية والثقافية للمنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ما هي الفوضى الخلّاقة؟
الفوضى الخلّاقة هي استراتيجية تقوم على إثارة الاضطرابات والنزاعات والفوضى داخل الدول بهدف إضعافها أو تفكيك بنيتها السياسية والاجتماعية، ومن ثمّ إعادة بنائها وفق نماذج وأنماط جديدة تتوافق مع الأجندات الخارجية. بمعنى آخر، هي استخدام الفوضى كأداة هندسة سياسية تُفضي إلى “نظام جديد” يخدم مصالح محددة.
صكّت الإدارة الأميركية هذا المصطلح على لسان عدد من المفكرين والمستشارين، وكان أبرز من تحدث عنه صراحةً كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، عندما قالت عام 2005: “إن ما نشهده في الشرق الأوسط هو مخاض لولادة شرق أوسط جديد، وإن هذا المخاض قد يكون عنيفاً”.
إعادة تقسيم المنطقة العربية
الفوضى الخلّاقة لم تكن مجرد نظرية، بل تحوّلت إلى واقع دموي في أكثر من دولة عربية. منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، توالت الأزمات في المنطقة: من تفكيك العراق إلى الطائفية في لبنان، ثم الحرب الأهلية في سوريا، والانقسام في ليبيا، والتمزق في اليمن، إضافة إلى محاولات زعزعة الاستقرار في دول أخرى.
كل هذه الأزمات ساهمت في تفكيك الدولة الوطنية، وفي بعض الحالات، أدت إلى ظهور كيانات مسلحة وهويات فرعية على حساب الهوية القومية الجامعة. ومن خلال ذلك، تم دفع المنطقة نحو سيناريوهات تقسيم غير معلنة، ترسخ النفوذ الأجنبي وتكرّس الضعف العربي.
أهداف السياسة الخبيثة
تهدف هذه الاستراتيجية إلى:
إضعاف الدول العربية الكبرى التي تشكّل تهديداً لإسرائيل أو لمصالح الغرب.
خلق صراعات داخلية تُنهك الشعوب وتلهيها عن قضاياها المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
تحقيق السيطرة الاقتصادية عبر إضعاف البنية التحتية وإعادة إعمارها بشروط القوى الكبرى.
إعادة رسم الحدود بما يسمح بخلق كيانات طائفية أو عرقية لا تمتلك القوة الكافية للاستقلال بقرارها.
المواجهة والبدائل
أمام هذه السياسات، لا يمكن للدول العربية إلا أن تتبنى مشروعاً وحدوياً نهضوياً يعيد بناء القوة الذاتية على أسس العدالة والحرية والتنمية. فالتفكك والانقسام لا يخدم سوى أعداء الأمة. لا بد من تعزيز الهوية العربية الجامعة، وبناء تحالفات استراتيجية داخل الإقليم تقوم على المصلحة المشتركة وليس التبعية.
كما أن وعي الشعوب هو الركيزة الأساسية لصدّ مشاريع التقسيم؛ إذ لا يمكن لأي مشروع خارجي أن ينجح من دون وجود قابلية داخلية له. من هنا تأتي أهمية الإعلام، والتعليم، والثقافة الوطنية في تحصين المجتمعا
خاتمة
إن سياسة الفوضى الخلّاقة وإعادة تقسيم المنطقة العربية ليست قدراً محتوماً، بل مشروع يمكن مواجهته بإرادة سياسية حقيقية، ونهضة فكرية عربية شاملة، تقطع الطريق على القوى التي لا تزال تراهن على تمزيق أوصال هذه الأمة. فبين وهم “الشرق الأوسط الجديد” وحقيقة “المنطقة العربية الواحدة”، تبقى الكلمة الفصل لشعوب تعرف من هي، وتدرك إلى أين تريد أن تمضي.